الخميس، 31 ديسمبر 2015

(Wadaad iyo Waranle) الشيخ و المحارب



كان المجتمع القبلي يقسم الرجال إلى قسمين إما أن يكون محاربا و هذا هو الأغلب أو شيخا. كان لفظ الوداد يطلق على الذين تعلموا العلوم الشرعية و هم بدورهم مقسمون إلى فئتين فئة يقال لهم ( Aw hebel ) و هم الذين تعلموا الدين في الداخل و لم يسافروا للخارج أما الذين تعلموا الدين في الخارج فكان يطلق عليهم لقب ( Sheikh hebel ) الشيخ فلان.

أما بقية الرجال فكان يطلق عليهم ورنلي (محارب) بلا استثناء و هذا اللقب كناية عن أنهم يحملون الرماح و السلاح للدفاع عن القبيلة و حيث لم تكن هناك دولة فكانت كل قبيلة مسؤلة عن حماية أفرادها و عندما يتم التعدي و التجاوز على أحدهم فهذا يعني التعدي و التجاوز على القبيلة بأكملها و لهذا كان هؤلاء المحاربون على أهبة الاستعداد دائما لأي طارئ.

أما الشيوخ فكانوا يربأون بأنفسهم بأن يدخلوا في الصراعات بحكم علمهم الديني حيث تنص تعاليم الإسلام على حرمة دم المسلم , و يلعب الشيوخ دورا كبيرا في الصلح و حقن الدماء حيث يقفون في موقف الوسط بين المتقاتلين ويكونوا وسطاء للسلام.

و هنا تسآلت بيني و بين نفسي هل أنا وداد أم ورنلي؟

حقيقة لا أعلم ما الذي يصيبي حينما أرى الرمح و لكن عيناي تلمع فجأة و أشعر و كأن هناك قوة كالمغناطيس تجذبني إليه, كأن روحاً أزلية تتلبسني ! ربما هي روح الأجداد التي طالما كان هذا الرمح لا يفارقها في حلها و ترحالها.

و أذكر أن أول درس أخذناه في أول سنة في الجامعة في مادة التربية البدنية كان درس لألعاب القوى في رمي الرماح و كنت مغترا بنفسي و أثرثر كثيراً كيف أنني لم أمسك رمحاً من قبل و لكن بما أن أجدادي كانوا ماهرين في رمي الرماح فلابد أن أكون مثلهم بالفطرة. كنت أضحك على محاولات من سبقني و المدرس المصري السويفي (من بني سويف) رحمه الله يعلق على طريقة رمي الشباب المضحكة للرماح فيقول لأحدهم " ايه يا بني هو أنت بتحدف طوب ؟".

و حينما حان دوري كنت اتمتختر في مشيتي و أمسكت بالرمح و كأنني خبير رماية و ركضت ركضة واثقة مثل التي أشاهدها في الأولمبياد, فحتما سأكون أفضلهم رماية و أبعدهم إصابة فأنا سليل المحاربين (الورنلي) , استجمعت كل قواي و أنا أرمي رميتي الأولى. في البداية بدت و كأنها الرمية الحلم كما تخيلتها في مخيلتي و لكنني لم أعمل حساباً للرياح فكان أن ارتفع رأس الرمح رويدا رويدا للأعلى بدلا من أن يتجه للأرض و إذ بالرمح يهبط متعامدا على الأرض ثم يقع على الأرض بهدوء مستفز!

أنا وقفت مذهولاً لفترة غير مصدق لما حدث, و يومها تعلمت أن لا أتباهى بمهارة أجدادي فهذه المهارة لن تورث تلقائيا إذا لم أتدرب كغيري. كما أن الضحك و الشماتة بالآخرين عواقبه وخيمة و الجزاء من جنس العمل.

يبقى أنني بطبعي أميل إلى تغليب السلام و السعي فيه فربما من حيث الطبيعية أكون أكثر قرباً إلى فئة الوداد الذين لم أنل علمهم و تقواهم, لكن هناك بذرة داخل النفس تميل إليهم و إلى مسارهم و كما قال أحدهم أحب الصالحين و لست منهم. وفي نفس الوقت كلما مررت برمح تلمع عيناي و كأن هناك ورنلي بداخلي يود الخروج إلى الوجود.


الاثنين، 14 ديسمبر 2015

500 شلن



اليوم عدت للعمل بعد اجازة قصيرة و حصل معي موقف جميل، و أنا في المكتب دخل علينا عامل النظافة في المبنى و اسمه عبدالله من الهند. و قال لي " تعال لو سمحت .. الفورمان يبي انت" و الفورمان هو كبير عمال النظافة. قمت معه و سلمت على الفورمان و أنا أظن بأنه سيسألني أمراً يختص بالنظافة أو عن السيارة في الموقف. لكن فاجأني حينما قال لي " أنت في فلوس ؟" و أشار بيده اليمنى بحركة الكاش و هي عبارة عن فرك متسارع بين اصبعي السبابة و الإبهام.

فكرت هل في فلوس ما عطيتها له ؟! ما تذكرت أي تعامل مالي بيننا. و أردف بسؤال" أنت من السودان؟...في فلوس سودان ؟ " فأجبته " لا أنا صومالي" ..فهمت منه أنه يبي يشوف فلوس مال بلد أنا .. قلت له حظك كويس أنا معي فلوس مال بلد في الشنطة لحظة انتظر.

رجعت لشنطتي و وجدت فيها مجموعة من فئات ال 500 شلن صوماليلاندي. اخرجت لهما ورقة واحدة و ثم شرحت لهما الغنم البربري ذو الرأس الأسود .."أنت شوف غنم راس أسود في الصورة ؟..هذا يجي سعودية بعدين أكل لحم" ثم هز عبدالله و الفورمان برأسيهما كناية عن معرفتهما بالغنم البربري...سألني الفورمان إذا كان يقدر يأخذ معه العملة ...أنا قلت له خذها و لكن وين بتوديها؟ ..قال " أنا في ركب جدار" و ما فهمت منه أنه يجمع عملات لبلدان مختلفة و يضعها عنده في حائط المنزل.

حقيقة سعدت باهتمامه بهواية جميلة مثل جمع العملات، فهذا يدل على حب للمعرفة و الاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى. و هذا دليل على الانفتاح و حب الحياة و سعة الأفق. فتحية للفورمان و للأخ عبدالله و أتمنى أن أكون ساهمت في إثراء جدار منزلهما ب 500 شلن صوماليلاندي.

أما في المساء حصل معي موقف آخر و أنا خارج من المسجد بعد صلاة المغرب، حيث لحقني رجل صومالي و دخل معي البقالة و حدثني و كأنه يعرفني " أدير كيف الحال؟ و كيف حال أخوك أحمد ؟" و أنا مشغول بتجميع أغراضي و حينما لم يتوقف عن توجيه الحديث لي. قلت له للأسف يا شيخ أنت غلطان فأنا لا أعرفك و ليس عندي أخ اسمه أحمد و ليس لدي أهل هنا. لكن للأمانة فهناك الكثير ممن يستوقفني و يقول أنك تشبه فلان أو فلان الصومالي، فربما أكون نموذجا صوماليا من حيث تفاصيل الوجه و الجبهة أو ما يعرف بال
Typical Somali و ثم فالصوماليون يحملون دماء واحدة. 

تحدثت معه لبرهة حتى اقتنع أنني لست من يبحث عنه أو انني لا أصرفه. رغم انني من البداية كنت ناوي اقول له " ترى في كثيرين يشبهوني بالصوماليين لكني مش صومالي" كنت أفكر أشوف ردة فعله وقتها ، لكنني لا يمكن أن أنكر صوماليتي مهما حدث فأنا اعتبر نفسي صومالي .. مسلم .. إنسان. 

ملاحظة: أنا استغرب من حديثنا مع العمال بلغة عربية ردئية، حيث الأجدر أن نحدثهم بعربية صحيحة حتى يتعلموا اللغة..فلا نجد أحدا يتكلم معك بلغة انجليزية رديئة لاجل أن تفهمه بل على العكس يكلمك بلغته و إن اضطر قد يتكلم ببطء لكي تفهمه. أتمنى أن نحذو نفس الحذو و حتى ذلك الحين ما زال يتردد في ذهني كلمات سائق التاكسي قبل أيام و الذي ركبت معه و أنا متأخر عن رحلة القطار في الرياض ..حيث قال لي " ما في خوف صديق أنا في معلوم اختصارات ..اختصارات" و بالفعل وصلنا مبكراً و تجنبنا زحمة الرياض بمعرفته الضليعة ب " اختصارات ..اختصارات".


الأحد، 9 أغسطس 2015

شكراً هرجيسا



الحمدلله قضيت أياماً جميلة هذه السنة في هرجيسا بداية من العشر الأواخر من رمضان و العيد و رحلة لاس قيل و الهاتريك الذي أحرزته في المباراة الآخيرة و معرض الكتاب و ليالي السمر مع الأهل و الأصدقاء.

هناك الكثير مما يمكن انتقاده في بلادنا و هناك مجال واسع و مفتوح لعمل المفيد و تقويم الأخطاء. لكنني اليوم سأتحدث بعين الممتن الذي يشكر الله على نعمه فكل يوم قضيته هنا كان بمثابة تحقيق حلم جميل واضح المعالم.

فكل جلسة مع أبي و كل حديث معه كانت نعمة و كذلك حديثي و تقبيلي لرأس أمي وجدتي نعمة، تناولي للحوح أو العانجيرو في الفطار بعد العودة من صلاة الفجر كل يوم كان نعمة. جلساتي مع الأصدقاء و تعرفي على المزيد من العقول النيرة و الواعدة كانت نعمة... كل ابتسامة و كل نسمة هواء تنفستها في وطني كانت نعمة تستحق الشكر.

في الليلة قبل الأخيرة سمرت مع الأصدقاء في أحد القهاوي الجديدة و ثم تناولنا وجبة عشاء وداعية جميلة مكونة من البيتزا اللذيذة و طبق السلطان المكون من مختلف أنواع اللحوم. كانت ليلة جميلة انتهت بالكثير من الضحكات و اللحظات الرائعة بصحبة الأصدقاء الذين ودعتهم.

أما الليلة الأخيرة فخصصتها للأهل قمت بزيارة جدتي و وداعها مقبلا رأسها رغم محاولاتها منعي من ذلك.. انتهى الأمر بتسوية أن يقبل كل منا رأس الآخر و ظلت تدعوا لي طويلاً و أنا أؤمن ورائها و أدعوا لها بالصحة و طول العمر.

في الليلة الاخيرة كانت قدماي لا تكاد تحملني و نبضات قلبي تتسارع كلما اقتربت ساعة الرحيل. في المسجد أتأمل المصلين و في كل صلاة أقول هذه آخر صلاة مغرب أصليها في هرجيسا.. هذه آخر صلاة عشاء.. هذه آخر صلاة فجر.. هذه آخر وجبة لحوح.. هذه آخر مرة أنام في بيتنا.. سمرت ليلاً مع إخواني و أخواتي و كانت ليلة جميلة.. ودعتهم اليوم صباحاً و ودعت أمي و آخيرا أبي على أعتاب بوابة مطار عقال الدولي في هرجيسا.

وداعاً هرجيسا وداعاً لجميع الأهل والأصدقاء، شكرا لكم جميعاً على أن منحتموني أجمل الأوقات، سيأتي يوم و أقضي معكم فيه أوقاتا أطول لأقاسمكم همومكم و مصيركم. أنا ممتن لكم جميعا و أختم كلامي بقول سيد الأنام المصطفى صلى الله عليه وسلم.... أفلا أكون عبدا شكورا... و الحمدالله أولاً و آخرا.

الأحد، 14 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة (الليلة الثالثة و الأخيرة)


الليلة الثالثة و الأخيرة


بعد أن نجا ليبان و أهله من الألغام التي انفجرت على بعد أمتار قليلة تم استئناف القصف الجوي والهجوم من قبل الأوغاد. فعلم أهل ليبان وغيرهم من العائلات أن لا مفر لهم سوى أن يهربوا خارج البلاد حتى لا تطالهم أيدي جنود وأعوان الوالي الظالم. فكانت أمنيتهم أن يصلوا للحدود الإثيوبية حتى يصبحوا في أمان وبعد طريق طويل وعناء شديد تجاوزت العائلات الحدود ووصلوا لمدينة تسمى ( ديري داوا ) في الجانب الإثيوبي، حيث كان يخرج من هذه المدينة قطار يقل الفاريين إلى دولة جيبوتي المجاورة.
 و عندما ركبت عائلة ليبان القطار تم سؤال جميع الركاب عن أصولهم فقالت أم ليبان أنهم ينتمون إلى قبائل الشيخ إسحاق فنظر العسكري لها بنظرة مشمئزة وأمر بإنزال كل من ينتمى لهذه القبيلة من الركاب وتم حبس الجميع في سجن خاص جمعت فيه النساء ولم يكن من الأطفال سوى ليبان وإخوانه وأمر الباقون بالمغادرة على متن القطار.
و لما رأي العساكر من أمر الصغير ليبان و إخوته تسللت الرحمة إلى قلوبهم و أخذوا يغدقون عليهم بالأطعمة و خاصة المعكرونة اللذيذة التي كاد ليبان أن ينسى طعمها فسبحان الله الذي أنزل الرحمة في قلوب الجنود على الأطفال، و مع ذلك لم يأكل الأطفال كثيرا حيث كانت النساء تشاركن الأطفال الطعام فهم كما يبدوا لم يروا هذا النوع و الكم من الطعام منذ أمد بعيد فأكلوا وشبعوا و دعوا الله مخلصين أن تدوم بركة هؤلاء الأطفال وأن يطول مقامهم طالما بقوا في هذا السجن.
و كان من أمر السجان والعساكر إخراج المحابيس في النهار لكي يستنشقوا قليلاً من الهواء العليل فكان الصغير ليبان و إخوته يستغلون الوقت بلعب الألعاب الشعبية، و في مرة من المرات رآئهم راعي إبل بدوي فقال أين أمكم؟ فأشار ليبان على أمه فذهب الراعي إليها وقال لها : ما رأيك أن تعطيني ولدك هذا و هو يشير إلى ليبان وأنا أربيه لك ليصبح في عداد الرجال برعيه للجمال؟. فأنتم هنا ربما تموتون ولايفرج عنكم وأنا أكلم العساكر فهل ترضين بأن تعطيني هذا الصبي ؟
نظرت أم ليبان إليه مستغربة غير قادرة على الكلام ونادت أولادها و احتضنتهم ولم ترد على الراعي البدوي ففهم الرجل بالإشارة أن مناقشة الأمر بحد ذاته  مرفوض في قاموس الأمهات ، فكيف بأم قاست ومضت في طريق الأهوال من أجل حماية فلذات أكبادها ومضى الراعي في طريقه مع جماله و إبله من غير رجعة.

وبعد مضي عدة أيام أشفق الحراس على الأطفال وأمهم فأمروا بهم أن يسافروا في أقرب رحلة في القطار المتجه إلى جيبوتي. وفعلا أتى القطار واستبشرت أم ليبان بأن أيام الشقاء إلى زوال فهي لديها أقارب في جيبوتي و ستنزل في ضيافتهم حالما تصل هناك مع أبنائها.ومن الفرحة ركبت أم ليبان القطار على عجل ومعها ليبان وأخته الصغيرة و لم تنتبه أن ابنها البكر قد ذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة و بدأ القطار بالحركة و لا يمكن إيقاف القطار إذا تحرك.
 و حينما خرج أخو ليبان ليلحق بأهله وجد القطار قد بدأ بالحركة فركض خلف القطار و رآءه أحد الرجال في المحطة وهو يركض فأسرع إلى حمله والجرى به ثم رماه في القطار، فجزاه الله خيرا حيث لم شمل الأسرة من بعد أن كادت تحل بهم العسرة.
واتجه القطار إلى دولة جيبوتي الشقيقة وعندما وصل هناك كان باستقبال عائلة ليبان أقارب لهم في جيبوتي فأكرموهم أحسن إكرام ، وكان لدى هذه العائلة الجيبوتية ابنتان توأمان اسمهما نفيسة ونعيمة فكانت نفيسة تدلع ليبان وتأتي له بالحلوى كل يوم بينما نعيمة كانت تهتم بأخي ليبان وكانت التوأمان تتنافسان في إرضاء الصغيرين وكان المستفيد الأول ليبان وأخوه حيث شبعوا من الحلوى الجيبوتية وأنواع الحلوى الأخرى.
مضت الأيام في جيبوتي و الصغير ليبان يشتكى من حرارة الجو ورطوبته فهو لم يعتد على هذا النوع من الأجواء حيث يتطلب الأمر تغيير الملابس يوميا لإبتلالها برطوبة البحر فكان الخروج من المنزل بحد ذاته أمرا صعبا في النهار فكان ليبان يتسلى بمشاهدة التلفاز العجيب الذي كان ينقل مباريات لكرة السلة الأمريكية.
واستمر ليبان وأخوه بالمشاغبة حتى في جيبوتي فكانوا في الليل يجمعون الزجاجات الفارغة ويصعدون إلى السطح ومن ثم يرمون الزجاج على المارة لإخافتهم والضحك عليهم من أعلى العمارة. ولن ينسى ليبان اليوم الذي ذهبوا فيه في نزهة بحرية للسباحة في شاطئ جيبوتي فأخذ يلعب مع أخيه وفجأة ومن حيث لا يدري ليبان قبض أخوه على رأسه فأدخله تحت الماء وحينما حاول ليبان فتح عينيه تحت الماء تسلل الملح إليهما فجلس فترة طويلة يفرك عينيه ألما ومنذ ذلك اليوم وليبان لايحب البحار ويتعامل مع الشواطئ بكل حذر وانتباه.
 و في ليلة من الليالي رأى ليبان الصغير في منامه أنه مع جدته وخالته في غرفة بيتهم في هرجيسا و رأى باب الغرفة قد تغير وأصبح نافذة إلى عالم آخر وخرجت منه عجوز شمطاء تريد قتل الصغير ليبان ، و لكن جدته أمسكت به ورمته في ذاك العالم الآخر وهي تقول له اهرب من تلك العجوز. فدخل ليبان في ذاك العالم الأخر وبدأ يرى حوله من الخراب ما الله به عليم و العجوز الشمطاء تلحق به لتقتله و قد اقتربت منه و بيدها سكين حاد.
ليبان يهرب وهي تقترب وهكذا دواليك حتى استطاعت أن تجرحه في ذراعه بسكينها ولكن الإصابة لم تكن مميتة. فاختبئ ليبان في منزل مهجور وتربص بالعجوز و كان في وسط البيت المهجور حفرةُ كبيرة فدخلت العجوز فأتى ليبان من ورائها و دفعها ا إلى الحفرة فوقعت شر وقعة، وهي تستنجد به ليخرجها فنادى ليبان جموعاً من الناس وبدأو في رمي العجوز بالحجارة والزجاج حتى ماتت. عندها استيقظ ليبان من المنام و أدرك أنه في مأمن من الحرب و أنها انتهت على الأقل بالنسبة له.
وبعد عدة أشهر صدرت الفيزا إلى السعودية حيث كان يعمل أبو ليبان منتظراً عائلته بشغف كبير ، فاستقبلهم في المطار و أصبح مسرورا وبالخير مغمورا. وحمد الله على أن سلم له أولاده وأمهم فخلع على أولاده بخلعةٍ سنية جليلة ، وأقيمت الإحتفالات ودقت الطبول وزمرت الزمور وكانت ليلة عظيمة لا تنسى من أيام الله الخالدة. فأقاموا بعدها في نعمة و سرور و لذة و حبور فسبحان الله الذي لا يفنيه تداول الأوقات ولا يعتريه شي من التغييرات ولا يشغله حال عن حال و تفرد بصفات الكمال. و الصلاة والسلام على إمام حضرته و خيرته من خليقته سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم سيد الأنام و على آله الكرام أفضل الصلاة وأتم التسليم.


تمت

السبت، 13 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة (الليلة الثانية)


الليلة الثانية



كما ذكرنا في الليلة الأولى بأن أهل ليبان استعدوا للهرب والسفر مع بضع عائلات أخرى ومع إشراقة الفجر تحركت العوائل أفواجا صغيرة هربا من جحيم القصف العشوائي الغاشم و الجميع يحمل ما يستطيع من المؤونة والكساء. وكان ليبان الصغير متحمسا للسفر فهو لم يغادر هرجيسا قط، و كان يلبس قميصاً وبنطالاً قصيراً وكان حافي القدميين لا يأبه بحرارة الشمس أو ألم الأشواك الممتدة على طول الطريق.

وكان من نصيب ليبان أن يحمل ( العو ) وهو البساط الذي يجلس عليه وكان الصغير ليبان نشيطا في بداية الرحلة و يسابق أهله ويحثهم على المضى قدماً. وكانت وجهة النازحين مدينة صغيرة تعرف ب ( دلعد ) ، فتارة يمشون على الأقدام وتارة يجدون شاحناتٍ تقلهم على الطريق. يقول ليبان واصفا رحلة الفرار: في النهار كنا نسمع أصوات الصواريخ والطائرات تحلق فوق رؤوسنا تتصيد للشيوخ والأطفال والنساء فكانت كلما اقتربت طائرة انبطحنا أرضاً بلا حراك كأننا أموات حتي لا يطالنا القصف  وفعلا كانت تنجح هذه الحيلة معظم الأحيان.


و طوال تلك اللحظات و الأيام من الخوف والهلع كان ليبان الصغير يرى أناساً ممددين على الأرض فيسأل أمه بكل برآءة الطفولة : أماه لماذا لا ينام هؤلاء الناس في بيوتهم ؟ لماذا ينامون في الشوارع والبراري ؟ فلا تعرف أم ليبان بماذا تجيب على تساؤلات الصبي الصغير ولا كيف تخفف من حيرته تجاه مايراه من كوارث و مجازر إنسانية .

 كان اللاجئون ينامون وسقفهم السماء وبساطهم الأرض وكان ليبان الصغير ينام على صوت الذئاب والضباع في حين ينام أطفال آخرون في الطرف الآخر من الكرة الأرضية على صوت الموسيقى الهادئة وعلى القصص التي تحكي لهم من قبل آبائهم وأمهاتهم من قبيل ال ( Fairy Tales) . مع كل هذا ولله الحمد لم يمر يوم شعر فيه ليبان وأهله بالجوع أو لم يجدوا طعاما وكان أهل البادية يضيفونهم بما يملكون و كان طعام اللاجئين اللحوح و العدس، العدس الذي لم يكن أهل هرجيسا يأكلونه من قبل وكانوا يطعمونه للماعز ولكنه كان طعاما لذيذا في وقت العسرة.

و مع استمرار المشي لمسافات طويلة تعب ليبان الصغير وكانت جدته تمشي بجانبه وهي تحمل أخته الصغيرة على ظهرها. فقال لها ليبان : جدتي مارأيك أن تحمليني ولو لمدة قليلة فقد تعبت ؟ وكانت الجدة فطنة و أجابت على الفور : ولدي ليبان يشتكي ! (وي تولاي) إذاً سألقي بأختك تحت هذه الشجرة ونتركها تعال أحملك بدلاً عنها، عندها أحس ليبان الصغير بما ترمي إليه الجدة. فقال : ياجدتي هذه أختي وهي صغيرة وهي أولى مني بالرعاية سأمشي وأحتمل عناء الطريق.

وفي أحد الأيام بينما كان يتمشى ليبان مع الصبية يجمعون الحطب لإشعال النار إذ بمجموعة من الحيوانات يشاهدها ليبان للمرة الأولى تجرى ورائهم فهرب ليبان الصغير مع أقرانه باتجاه أهله خوفاً وطلبا للحماية منها. وعندما وصل الصبية إلى أهاليهم وظنوا أنهم في أمان تفاجأوا أن الحيوانات لحقتهم إلى حيث أهاليهم فاستنجد الصبية بأهلهم فضحك الكبار على الصغار وقالوا لهم : لاتخافوا هذه مجرد خرفان صومالية ذو رؤوس سوداء تعرف ب( البربري ) عندها اطمئن الصبية وعرفوا أنه حيوان أليف لا يعض ولا يقتل.

وكان من هذه الحرب الشعواء أن دمرت عشرات الالآف من البيوت في المدينة السعيدة هرجيسا وقتلت ما يقارب المائة ألف من أهلها وحينما كان العالم يسأل الطاغية لماذا تقصف الشعب المسكين كان يقول دعوهم إنهم يهود الصومال وأنا أطهر الأرض منهم. و كان الأطفال الصغار بما فيهم ليبان ينشدون نشيدا نكاية بجنود الطاغية وكان الأطفال يقولون ويرددون (فقشي فوقوشي فطتا قبوبدي) وكان الأطفال سعيدون بترديد هذه العبارة صباح مساء .

ولحسن الحظ وجدت بعض العوائل الهاربة شاحنتين كبيرتين فعرض سائقا الشاحنتين توصيل العوائل في طريقهم لكي يرتاحوا ولو قليلا من عناء السفر على الأقدام. فتوزعت العائلات بين الشاحنتين وكان من نصيب عائلة ليبان أن ركبوا الشاحنة الأولى ومضت الشاحنتان في طريق معلوم رسمته المقاومة حتى لايقعوا في فخ الألغام التي كانت منتشرة في تلك الأيام بأمر من الحاكم الظالم سياد بري.

وكانت الشاحنتان متباعدتين وذلك تحسباً من أن يلحظهم العدو، ولسوء حظ الشاحنة الثانية ولإنقضاء أجل من فيها استعجل السائق وخرج عن المسارالمحدد فانفجرت بهم الألغام فقتل جميع من كان في الشاحنة في الحال و اهتزت الأرض من تحت الشاحنة التي تقل ليبان وأهله حتى كادت أم ليبان أن تسقط من الشاحنة ولكن أيادي جدة ليبان وبعض النساء تلقفت أم ليبان و أعادتها إلى الشاحنة فمضى البقية الباقية من اللاجئين في سبيلهم مذهولين مذعورين حيث ترحموا على الأموات وحمدوا الله على أن أخرجهم سالمين و لو إلى حين.

و أدرك ليبان الصباح فسكت عن الكلام المباح.


يتبع

الجمعة، 12 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة




مقدمة:

منذ الصغر و أنا أعشق قراءة القصص و خصوصا تلك القديمة و التي تأخذني بعيداً في عالم الخيال و كنت أقرأ هذه القصص بشراهة منقطعة النظير و تحديدا في مرحلة المتوسطة حيث عمرى حينها لم يكن يتجاوز ال 13 سنة. كنت أجمع مال الفسحة حتى أشترى كتابا و أكتفى بأكل اللحوح على الصباح الباكر و الوالد كان يهديني بين الفينة و الأخرى كتباً، و من أجمل هداياه التي أشكره عليها مجموعة قصص ألف ليلة و ليلة حيث أهداني إياها في عيد ميلادي ال 14 لا أعلم هل هي مصادفة أم أنني حاولت إقناع نفسي بأنني حصلت على هدية عيد ميلاد لأول مرة في حياتي.
ولشدة تأثري بقصص ألف ليلة و ليلة و إعجابي الشديد بطريقة السرد قمت قبل عشرة سنوات تقريباً  بمحاولة لكتابة و صياغة مغامراتي في الطفولة عندما كنت أهرب من جحيم الحرب التي شنها الطاغية سياد بري على الشعب الأعزل في شمال الصومال (صوماليلاند) خاصة هرجيسا مسقط رأسي و مرتع الطفولة. كنت حينها مجرد طفل لا يتعدى الخامسة من عمره و لكن ذاكرتي حملت الكثير من الذكريات التي لا تمحى بسهولة.
 سأسرد لكم على أجزاء قصة حقيقية حدثت معي كما حدثت مع الالآف من الأطفال في جميع أرجاء شمال الصومال خلال تلك الحرب. فقد كنت شاهد عيان و كنت من اللاجئين الذين هربوا بحياتهم، فررت و أنا حافي القدمين لا أملك من الدنيا سوى قميص واحد و بنطال قصير و أمل بالله كبير بأن ينجينا من براثن الجيش الذي غدر بالشعب الذي يفترض أن يحميه و خان القسم بحماية الأرض و العرض. فلنعد بعقارب الساعة إلى الوراء و لنترك بطل القصة الذي اسميته ليبان الصغير يحكي لنا القصة و يروي لنا الرواية من وجهة نظره.

الليلة الأولى


كان يا ماكان فى قديم الزمان و سالف العصر والأوان كانت هناك مدينة سعيدة اسمها هرجيسا يسودها الحب والوئام .كان الكل يعرف الكل الكبير يعطف على الصغير والصغير يرحم الكبير، وفي وسط هذه الأجواء الجميلة ولد صبي صغير اتفق على تسميته ليبان بعد شد وجذب. ولد و ترعرع في المدينة السعيدة بعيداً عن أبيه الذي كان يعمل فى الخليج لتأمين لقمة العيش الكريم لأفراد أسرته كان ترتيب ليبان الفتي الثاني للعائلة الصغيرة.
كان ليبان فتى مشاغبا منذ الصغر حيث كان يذهب إلى الملعامد ليدرس القرآن والحروف الهجائية وهو يحمل في يديه الصغيرتين مايعرف ب ال ( Qambadh ) وهو كرسي صغير له أربعة قوائم يصنع من جلد الماعز . فتارة يهرب ليبان من الملعامد لأنه لم يحفظ وتارة أخرى يتقاتل مع صبي آخر على كرسيه الصغير، كان يحب اللعب و اللهو مع أخيه الأكبر محمد و دائما ما يتسلقان الشجرة الكبيرة في فناء المنزل بخفة ورشاقة. بينما يخرجان في العصر للعب مع أقرانهما و جيرانهما ثم يعودان منهكين بعد المغرب للإستماع إلى قصص جدتهما أو أمهما بعضها جميلة مثل قصص الثعلب و السلحفاة و بعضها مخيفة كقصة السفاحة صاحبة الأذن الطويلة (Dhag Dheer ) التي تحب أكل لحم الأطفال الصغار.
كان ليبان الصغير يذهب في كل يوم جمعة إلى بيت جده لكي يأكل معه المعكرونة الشهية مع السلطة و الموز واللحم اللذيذ ، وكان يحب جده – رحمه الله - كثيرا لأنه كان يداعبه باستمرار ويضحكه بنغزه في أماكن معينة تضحك الأطفال كثيرا. كانت الحياة جميلة إلى أن أتى يوم قام فيه ليبان و أهله من النوم فزعين على صدى طرقات قوية على الباب أيقضت جميع من فى المنزل. وعندما فتحت أم ليبان الباب فإذا هم عساكر الدولة الصومالية (الفقش كما كانوا يلقبون) يبحثون عن الثوار من أهالي الشمال وكان ذلك فى أوائل عام 1988 م ففتشوا فى المنزل ولم يجدوا أحدا فقالوا لنا اذا وجدتم الثوار فأبلغوا عنهم وإلا سترون الويل والثبور.
تدهورت الأوضاع بعد فترة واشتدت وطأة الحرب وأصبحت الحكومة الصومالية ممثلة بمجرميها غاني و مورقن تقصف المدينة قصفاً عشوائياً، بعدما عجزت عن القبض على رجال المقاومة فلم تجد سوى المدنيين لكي تسقيهم من نيرانها لا فرق لديها إن وقع القصف على أطفال أو نساء أو شيوخ فهدفهم إفناء المدينة و سحق أهلها دون تمييز. مع كل هذا كانت أم ليبان وجدته تعتقدان أن الأمور بإمكانها أن تتحسن و أنه لاداعي للفرار من المدينة التى تحولت من مدينة السعادة والهدوء إلى مدينة الجحيم والظلام .
كان ليبان الصغير حينما يخرج إلى فناء المنزل يرى أنواع الصواريخ المختلفة مسرعة وهي تمر من فوق منزلهم الصغير. بالطبع هي ليست ألعاباً نارية كما تعود معظم الأطفال مشاهدتها في الأعياد و الأفراح، لكنها ألعاب صاروخية مميتة تحرق الأخضر و اليابس. وكلما رأت خالة ليبان أنه يخرج للفناء للنظر إلى الصواريخ تزجره وتأخذ بيده لكي تدخله الى المنزل وتقول له : اختبئ تحت السرير لتتقي القصف. فيجيبها الصغير ليبان بشجاعة : وماذا ينفعنا السرير إذا وقع الصاروخ على الغرفة ؟ سنموت في كلتا الحالتين و كأن لسان حاله يقول فلنمت واقفين شامخين إن كان الموت مصيرنا. ثم يخرج ليبان إلى فناء المنزل مرةً أخرى كاشفا عن صدره وحاسراً عن قميصه و هو يخاطب الصواريخ التي تتهاطل من السماء بتحدى مثير للعجب: تعالي أيتها الصواريخ اضربي صدري فلست خائفاً منك.
كان ليبان رغم صغر سنه متضايقاً لبقائه مع النساء و الأطفال فكان يطلب من خاله و أعمامه أن يعطى سلاحاً للقتال كبقية الرجال. وكان الجميع يضحك على طلبه فيزداد حنقاً و لم يهون عليه سوى قول خاله له: إننا نعتمد عليك لحماية أمك و جدتك و إخوتك. أما أبو ليبان فقد كان يتواجد في الخليج أثناء فترة الحرب و كان في حالة من القلق الشديد فهو لا يعلم إلى ما ستؤول إليه الأحوال ولم يكن أمامه حيلة سوى الدعاء بنجاة أهله و أبنائه.
لم تفكر عائلة ليبان بالنزوح إلا حينما وقع صاروخ على منزل الجيران وقتل خمسة من أطفالهم و لم ينجو سوى الأم و ابنها الرضيع خلال زيارتهما إلى منزل أهل ليبان فخرج الجميع لمحاولة إنقاذ الأطفال ،لكن للأسف لم يتبق منهم سوى الأشلاء المتبعثرة تحت الركام حينها صرخت أمهم بشدة و أصيبت بالجنون لاحقا حزنا على فلذات أكبادها و احتضنت جدة ليبان حفيدها محاولة أن تحميه من النظر إلى أشلاء أطفال الجيران الذين اعتاد اللعب معهم.
حينها تيقنت أم ليبان أن لا مقام لهم في هذه المدينة وأنه يجب أن يهاجروا مع المهاجرين هربا بحياتهم . وفي تلك الليلة جمعت العائلة الأغراض والمؤن الضرورية في رحلتهم الطويلة، و قرر أعمام ليبان وجده وخاله البقاء للمقاومة بينما تذهب النساء والأطفال خارج المدينة في طريق رسمه لهم أبطال المقاومة للهروب من النيران و الألغام الأرضية المنتشرة في كل مكان. وحينما اقتربت شمس الفجر من البزوغ كانت عائلة ليبان وبضع عوائل أخرى على أهبة الإستعداد للهجرة تاركين ورائهم مدينتهم و موتاهم وهم لايعلمون ما قد يواجههم من مخاطر وأهوال .

 وأدرك ليبان الصباح فسكت عن الكلام المباح .

يتبع

السبت، 16 مايو 2015

المطوع المدخن


قبل يومين و بينما أمشي في الشارع و أنا عائد إلى المنزل وجدت رجلاً يدخن ، حتى الآن الأمر عادي جداً و يحدث كل يوم. لكن فجأة التفت الرجل و الدخان في فمه و ما شدني و جعلني أستغرب أنه لديه لحية كثة و يلبس ثوبا ناصع البياض.

نظرت إليه نظرة استغراب ثم مضيت في طريقي ، فلحق بي الرجل و سلم علي بعد أن رمى السيجارة على الأرض و قد بدا عليه الارتباك و الخجل و قال لي " هذا ابتلاء ابتلاني به الله و أنا أدخن منذ أن كنت في الرابعة عشر من عمري". شعرت بحرج الرجل و حتى أجاريه في الكلام قلت له " مطوع و تدخن !"، ثم تداركت بأن لكل إنسان ابتلاء و ضعف و ليس من حقي أن أحكم عليك و أعتذرت له إن شعر من نظرتي بأي نوع من الحكم على تصرفه.

الرجل أكمل حدثيه قائلاً " بإذن الله سأستغل فرصة رمضان لترك التدخين فادع لي" ، دعوت له الله أن يعينه على ترك التدخين و يوفقه للخير و يغفر له و لنا ضعفنا. كنا نتحدث و أنا في طريقي للمنزل و الرجل في طريقه إلى أحد محلات زينة السيارات حيث ينتظره صديقه. سلم علي بحرارة و ودعني و أنا بدوري ودعته و سلمت عليه.

في الحقيقة ذكرتني هذه الحادثة بما كنت أفعله في أيام الصبا في المرحلة المتوسطة من نصح المارة المدخنين، كنت أقف عندهم و أنصحهم بترك التدخين واعظاً إياهم و مذكراً بالآثار السلبية على الصحة و البيئة. كنت في تلك الأيام أتحدث بالعربية الفصحى.

و أذكر آخر مرة نصحت فيها أحدهم بالعربية الفصحى لحثه على ترك التدخين كان شاباً يكبرني بسنوات عديدة و لديه مهارات في الكارتيه و الجودو. فوجئت به و أنا أنصحه برجله ترتفع فوق رأسي في حركة سريعة و مباغتة ، استطعت أن أتفادي الركلة بمرونة شديدة و رأيته و قد استعد لوضعية القتال. قيمت الموقف سريعاً و رأيت أنني سأخسر المعركة لا محالة و أنا لم آتي للعراك بل للنصيحة ، فقررت أن ألوذ بالفرار و بينما كنت أفر من أرض المعركة كنت أقول للشاب " يا لكع ابن لكع".

من طبعي أنني لا أحب أن أحرج أحداً حتى أمام نفسه و لو كان الحق معي و لا أن أكسر بخاطر أحد إن كان بمقدوري مساعدته. و لذلك لم أحبذ نظرتي الفضولية تجاه الرجل و هو يدخن ، تلك النظرة التي قد تنطوى على شي من الكبر أو المفهوم بأنني أفضل منه بينما لست مخولاً في الحكم على الآخرين فما عندي من نواقص و آثام يكفيني.

و ربما يكون هذا الرجل رأي فيني شيئاً ما أو ربما ذكرته بنظرة أبيه أو من يحبهم و يحترمهم، فمن يدري ربما يترك هذا الرجل التدخين و أكون قد أسديت له النصيحة بمجرد نظرة عابرة غير مقصودة.


الثلاثاء، 7 أبريل 2015

عزاء في الحسينية


اليوم و بينما نحن في العمل تلقينا نبأ وفاة والدة أحد زملائنا (ابو رضا) و هو من مدينة القطيف، ذهب بعض الزملاء في الفترة الصباحية لتعزيته و لم يخبرونا و عاتبناهم فيما بعد. و بعد صلاة الظهر اتصلنا عليه للتعزية و المواساة في الفقيدة، لم ترتح نفسي لمجرد العزاء هاتفياً خاصة أن القطيف ليست بذلك البعد. 

لذلك عزمت على مفاجأته و الذهاب شخصيا لتعزيته بعد العصر، أخذت اسم مكان العزاء من أحد الزملاء و كان في حسينية البيات في القطيف. الاحداثيات أخذتها من خرائط قوقل و استعنت بنظام الملاحة للوصول إلى المكان المنشود في الساعة الرابعة تقريباً. 

دخلت إلى المسجد المجاور للحسينية لم يكن هناك أحد بالداخل ، سمعت صوت المكرفون و يبدوا أنه قادم من جوار المسجد. صليت العصر في المسجد و كان يحوى طاولة كبيرة عليها  بعض الكتب المتناثرة و  و لاحظت على الجدار صور لشيخ مسن مكتوب اسمه بأنه مؤسس المسجد الشيخ البيات. كما شد انتباهي كراسي المسنين التي كانت مزودة بالمسبحة و طاولة صغيرة فيها أحجار دائرية من سهل وصول الرأس إليها من وضعية الجلوس.

اتجهت إلى الديوان أو الحسينية بجوار المسجد و سألت أحدهم و كان خارجاً هل هذا مجلس عزاء والدة الاستاذ ابو رضا ؟ أومأ بالإيجاب فدخلت و كانت الحسينية مزودة بالكراسي و مكتضة بالحضور و المعزين. اتجهت إلى أهل الفقيدة و عزيتهم و لكنني لم أجد صديقي و زميلي ابو رضا، لاحظت شبه أحد الحضور بتفاصيل وجهه فسألته إن كان أخاه؟ أجاب بنعم وأشار أنه سيأتي بعد قليل.

أخذت بالسلام على الحضور ثم جلست على كرسي وثير بجانب شيخ كبير طاعن بالسن فقد كنت بحاجة لبعض الراحة بعد عناء الطريق الذي سلكته لأول مرة باتجاه هذه المدينة. مباشرة اتجه نحوي طفل صغير و معه كتاب مختصر يحوي جزء المجادلة و بعض الأدعية ، شاهدت الطبعة و كانت من الديار المقدسة في مشهد الايرانية. فكما يبدو أن كل منهم يقرأ جزء من القرآن على روح الفقيدة. و قرأت ما تيسر من سورة المجادلة و بينما نحن جلوس دخل علينا شيخ يلبس عمامة بيضاء يبدو أنه سيد من السادة. 

دخل هذا السيد و جلس في صدر الحسينية و أخذ يعضنا بالموت و الحساب و يأمرنا بالوصية لكل من أحس باقتراب الأجل لسداد ديونه أو رد المظالم ، و مع الحديث عن المظالم انتقل لسرد أناشيد و أهازيج تحكي مقتل الحسين – عليه السلام- و سبي بناته. فأخذ الكثير من الحضور في البكاء فصرت أتأملهم بعضهم يأخذ المناديل ليمسح دموعه من التأثر و آخرون منصتون و كنت منهم. 

أخذت أجول ببصري في الأرجاء و شدتني صورة معلقة لرجل بهيئة عراقية بالدشداشة الرمادية و الشماغ المكون من البقع البيضاء و السوداء، و كذلك صورة أخرى لشيخ يلبس عمامة بيضاء لم أتعرف عليه. في أثناء الوعظ دخل علينا زميلنا أبورضا و معه ابنه رضا الصغير و جلس مع إخوانه لما أشأ تأدية واجب العزاء قبل انتهاء الوعظ الذي كان الكل مستمعاً له، انتهى الوعظ بالدعاء للفقيدة و الترحم عليها و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آل محمد بشكل جماعي و أنهى الشيخ السيد وعظه بهذه الجملة التي سمعتها تتكرر كثيرا "رحم الله من قرأ الفاتحة" فيرد عليه الحضور "أحسنت".

بعد الوعظ اتجهت لزميلي و عزيته في وفاة والدته التي سهر على مرضها فترة طويلة و كان نعم الابن البار بها حتى توفاها الله و أراحها من دار الابتلاء. أصر علي بالمكوث و شرب الشاي و القهوة ، فقبلت أن أبقى معهم لبعض الوقت و وقفت مع عائلة الفقيدة في صف واحد أستقبل العزاء معهم من المعزيين. كنت ألمح بعض من نظرات التعجب لدى المعزيين حينما يصل الدور إلى فيكملوا سلامهم و يقدمون لي تعازيهم كالمعتاد "أحسن الله عزائكم" فأقول لهم "جزاكم الله خيراً" "بارك الله فيكم و شكر سعيكم".

عرفني زميلي على أحد أصدقاء طفولته و اسمه محمد الجواد فجلست معه في طرف المجلس نشرب الشاي و القهوة و نتبادل أطراف الحديث، أخبرني أنه و أبورضا كانا أصدقاء منذ نعومة أظافرهما حتى درسا الجامعة في مدينة جدة و هما الآن جيران في الحي. كما أخبرني عن عاداتهم و تقالديهم في العزاء و عن مدى اختلافها عنها في مدينة صفوى المجاورة فالعزاء عندهم ثلاثة أيام للرجال و خمسة للنساء لشدة حزنهم. 

كما أنهم في القطيف يعزون و يسلمون على جميع الحضور بعكس صفوى الذين يسلمون فقط على أهل الميت. سألني محمد الجواد على استحياء : هل أنت من أهل المدينة المنورة ؟ (حيث يوجد هناك شيعة سمر البشرة) قلت له: يا ليتني كنت من أهل مدينة رسول الله و لكنني صومالي و اسمي عواله و معناه صاحب الحظ السعيد و أنا سعيد بلقائكم. و أخبرني بحب أهل هذه الأرض لأرضهم و أنهم لا يرتاحون إلا بالسكن هنا مهما اغتربوا في المدن الأخرى للعمل. 

و بعد مرور ساعة تقريبا من بقائي في الحسينية ، أستأذنت من الأخ محمد الجواد بالانصراف و ذهبت لأسلم و أعزي أهل الفقيدة مرة أخيرة قبل الخروج. ودعوني بحفاوة شديدة و تواضع حيث يقف لك الكبير قبل الصغير للتحية يرددون "شكر الله سعيكم". خرجت خارج الحسينية مع أبورضا و ولده و صديق عمره محمد الجواد و كان مصمما أن يأخذني معه لمنزله يبدو أنه كان سعيداً بزيارتي و عزائي و كان هذا كل ما أردته، لكنني اعتذرت و وعدته بأن أزوره مرة أخرى في الأفراح بإذن الله. و صديقه محمد الجواد لم يشأ أن يتركني للطريق رغم سهولته و أصر على أن يتقدمني بسيارته إلى بداية الطريق المؤدية للخروج من المدينة.

رحم الله الفقيدة و تغمدها الله بواسع فضله و عظيم منه و كرمه. و أعان الله زميلنا أبا رضا و أهله و ألهمهم الصبر و السلوان و إنا لله و إنا إليه راجعون. 

الجمعة، 30 يناير 2015

بين التقليد و الإبداع



يولد الأطفال و هم يحملون خصائص كثيرة تؤهلهم لأن يصبحوا من العظماء و العباقرة إلى أن يتدخل المجتمع و يجعلهم مجرد نسخ مقلدة لمن سبقهم. الاطفال لديهم فضول كبير و يحبون الاستكشاف و المعرفة ، لكننا لا نصغى لاهتماماتهم و اشاراتهم التي إن أصغى لها الكبار و عملوا على اذكاءها لتطورت الانسانية بوتيرة لم يسبق لها مثيل و لرأينا الكثير من الناس السعداء بمنجزاتهم و إضافتهم للعالم. لعلنا نجد طفلاً ذكياً يملك طاقة عقلية هائلة و لكنه مصاب بالتوحد فلا نعرف كيفية التعامل معه و ربما نجده يسقط في النظام المدرسي فنظن أنه لن ينجح في حياته. قد يكون بحاجة لنظام تعليمي خاص مفصل على مقاسه بعيداً عن الحشو و الحفظ الأصم، فكثير من العلماء و العباقرة لم يكملوا التعليم النظامي الذي قد يكون في أحيان عائقاً أمام الابداع.  

سأشارككم اليوم بعضاً من مواقف الطفولة و الصبا حتى تعلموا أن بداخل كلٍ منا عبقرياَ يتشوق للنهوض، يحتاج فقط للعناية و الإصغاء حتى يخرج إلى الوجود. اطلب منكم و أنتم تقرأون الأسطر القادمة أن تعودوا إلى الوراء و تستحضروا ذلك العبقري الصغير بداخلكم:

هاجرت و أنا صغير هرباً من الحرب الأهلية الصومالية و أٌدخلت المدرسة الابتدائية و أنا لا أعرف حرفاً من العربية و لكن بعد شهرين كنت أتحدث العربية بطلاقة لا أعلم كيف تعلمتها بتلك السرعة، هذا ليس أمراَ خاصاً بي و لكنه هبة موجودة لدى الانسان خاصة الصغار لتعلم الجديد و التأقلم مع البيئة المحيطة. و هناك موقف لن أنساه و دائما ما يحدثني الوالد عنه حينما قدمت إلى الرياض و أنا صغير كنت في أحد الأيام راكباً الوانيت الأبيض مع أبي و أخي الأكبر.

 كان الوالد يقود السيارة بسرعة معتدلة و مرت بجوارنا على المسار الأيسر سيارة مسرعة فتعجب أخي الأكبر من سرعتها، بينما قلت للوالد و أخي " لا تتعجبوا من سرعة السيارة فلو كنا نحن من يقودها لما شعرنا بسرعتها و نحن في نفس الموقف بالنسبة لمن هم أقل منا سرعة". يذكرُ الوالد أنه تعجب من ردي ذلك و أنا الذي اتيت للتو من الصومال ووقتها لم أكد أبلغ السادسة من عمري.

كما أذكر أنني في المراحل الدراسية المتوسطة و الثانوية كنت أميل لبعض المواد أو بعض الجزئيات بشكل خاص من هذه المواد: التعبير و الأدب الجاهلي و الجغرافيا و التاريخ و الرياضيات خاصة المعادلات و اللوغاريتمات. كنت أستمتع كثيرا بالبحث عن المجهول "س أو ص" و كانت تمارين المعادلات و اللوغاريتمات هي الوحيدة التي أحلها كاملة بعد الدوام دون أن أتململ من المذاكرة التي لم أكن أجيدها.

 فاستراتيجتي الدراسية كانت تتمحور في الانتباه في الفصل و كتابة الملخصات مع المعلم و من ثم ارجاء المذاكرة حتى موعد الامتحان أو حل الواجب. فيما عدا المعادلات و اللوغاريتمات فكنت أحل التمرين تلو الآخر بشغف ، حتى أنني توصلت إلى طرق مختصرة لحل أنواع من المعادلات و اللوغاريتمات دون أية مساعدة من أحد و العجيب أنني كنت أتحصل على نفس الناتج دائماً و لكن بشكل أسرع و خطوات أقل بكثير مما علمنا إياه المعلم. مع تكرار التجارب تيقنت من صحة تلك الطرق المختصرة التي توصلت إليها.

ربما ليس سراً أن لدي نوعاً من الكسل و هؤلاء الكسالى هم من يخترعون عادة أقصر الطرق للوصول إلى الحل، لذلك قررت في أحد الامتحانات في صف الأول ثانوي أن أحل اللوغاريتم بطريقتي المختصرة. و كانت دهشتي عارمة حين صدور النتائج و حينما أعطاني المدرس المصري درجة صفر في سؤال اللوغاريتم  الذي كنت أعتبره من السهولة بمكان ، فذهبت أجادل المعلم و أحتج عليه فقال لي: نعم يا ابني الناتج صحيح و لكن ليست هذه الطريقة التي علمتكم إياها ربما تكون قد نقلت الجواب النهائي أو غشيت من أحدهم ! من المستحيل أن تحلها بهذه الخطوات القليلة.

حاولت أن أشرح له طريقتي المختصرة في الحل و لكنه رفض حتى أن يستمع إلى شرحي ، فالحق عنده فقط و الطريقة الوحيدة للحل هي الطريقة التي يعرفها و علمنا إياها. و في السنة التي قبلها كنت قد تعلمت بعض الطرق المستحدثة لحل المعادلات غير تلك الطرق التي درسها لنا معلم الرياضيات السوداني. فوضع المعلم سؤالا على السبورة و طلب أن يحلها أحدهم ، رفعت يدي و حينما توجهت للسبورة و كتبت أول سطر لحل المعادلة بالطريقة المستحدثة طلب مني الجلوس. طلبت منه أن يمهلني قليلاً حتى أكمل الحل و يرى الناتج الذي كنت متأكداً من صحته ، لكنه أصر على أن أجلس و لا أكمل رغم حماستي بأن أشارك الفصل و أعلمهم تلك الطريقة الجديدة و الميسرة لحل المعادلة.



انتهى الآمر ببعض الضحكات الساخرة من الطلاب و يقين المعلم بأنني لا أعرف الحل فقط لأنني لم أسلك طريقته في الحل. كل هذا جعلني أصاب بالإحباط و ما زاد الطين بلة هو محاولة أحد طلاب المشاغبين أن "يعركفني" و أنا في طريق العودة إلى طاولتي فرددت عليه بلمسة خفيفة في جبهته و جلست فما كان منه إلا أن قام و لكمني على رأسي. حينها شعرت و كأنني في حلم أو كأنني دخلت في بعد آخر كل شي حولي كان ضبابياً و الزمن يمشي ببطئ شديد ، قمت فكلت له اللكمات يمنة و يسرة حتى سقط على الأرض و تبعثرت الكراسي و الطاولات.

لم اكن أسمع صراخ المعلم أو شهقات الطلاب المندهشين مما يحدث أمامهم ، حاول مجموعة من الطلاب أن يثنوني عن ضرب ذلك المشاغب فأخرجوني خارج الفصل ثم عدت مسرعا و أنا أكيل له بعض الشتائم راغباً في إكمال اللكمات. انتهى بنا الأمر في مكتب المرشد الطلابي الذي لم يصدق ما سمعه عني و أطلق سراحي بناءً على حسن السيرة و السلوك بعدما اعتذرت للطالب المشاغب ، لاحقا سألني الطلاب ما هي الطلاسم التي كنت أتلفظ بها وقت المضاربة ؟ فعلمت أنني كنت أشتمه بالصومالية و أنا الذي كنت أعتقد أنني أشتمه بالعربية !

قصة أخيرة تجمع بين حبي للرياضيات و التاريخ، في أحد حصص التاريخ في الصف الثالث متوسط سألنا المعلم سؤالاً و قال من يحل هذا السؤال ليس بحاجة لدخول الامتحان الشهري و سيحصل على العلامة الكاملة  8\8. كان السؤال: في أي عام بعث الرسول صلى الله عليه و سلم بالتاريخ الميلادي ؟ مباشرة أجريت عملية حسابية سريعة في ذهني ، أولاً ما هي الحقائق التي أعرفها لحل السؤال ؟ لدي معطيان، الأول:  الرسول صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل الموافق 571 م ، الثاني: أنه بعث و عمره أربعون سنة. إذا سنة البعثة = عام الفيل + 40 سنة = 571 + 40 = 611 م. هذه العملية الحسابية لم تستغرق سوى ثانيتن أو ثلاثة مباشرة رفعت يدي و كنت الوحيد الذي رفع يده في الفصل فجاوبت على السؤال و شرحت كيف تحصلت على الجواب من المعطيات التي أمتلكها.

أعجب المعلم بجوابي فوعدني بالدرجة الكاملة في امتحان التاريخ ، و باعتباري كسولاً لم أتعب نفسي في مذاكرة الامتحان فلا حاجة لبذل جهد غير ضروري. لكن الصاعقة كانت حين وضع المعلم ورقة الامتحان أمامي كبقية الطلاب ! وقتها لم أعرف ماذا أفعل ؟ هل أذكره بوعده ؟ لكن نفسي أبت السؤال و قلت دعني أحاول أن أحل الامتحان و ليكن ما يكن. أنهيت الامتحان و لم أراجع بعد ذلك حتى وقت صدور النتائج ، أخذ المعلم بتوزيع الدرجات و وزع للجميع و كانت ورقتي هي الآخيرة. ثم رفع الورقة و قال: أتعلمون ورقة من هذه ؟ إنها ورقة عواله .. أنا تصلبت في مكاني خشية أن ينالني نوع من الهزوء و السخرية إن لم تكن أجوبتي كما يجب. فكانت المفاجأة أنه قال: لو طلب مني حل الإمتحان لما حللته مثل حل عواله ، و لو كانت هناك درجة أعلى من الدرجة الكاملة لأعطيته إياها. وقتها اسقط في يدي و انتهت روعتي فقد كنت الوحيد الذي أخذ الدرجة كاملة في مادة التاريخ تلك السنة.

كان لتشجيع معلم التاريخ دوراً في استمراري على اطلاع الكتب التاريخية ليس فقط للدراسة و لكن للإطلاع و كسب المعلومات و البحث في التاريخ خارج المنهج الدراسي حتى بعد أن توقفت عن دراسة مادة التاريخ بعد انضمامي للثانوية العلمية. أما معلموا الرياضيات للأسف لم يشجعوني على التطور و الاستمرار بل كانوا يحاولون خنق أي بذرة للإبداع و الاكتفاء بالتقليد و التلقين لأجل كسب الدرجات فقط. في الدول الغربية يهتمون لمن يظهر تميزاً في بعض المواد و يدعمونه للتطور السريع فلا يربطونه بمقررات دراسية مملة، بل ربما تجد أحدهم يدخل الجامعة و هو في الثانية عشرة من عمره فربما يكون مستواه العقلي يؤهله للتقدم سريعاً في سلم التعليم. فكم من عبقري خٌنقت عبقريته لأجل أن يصبح إنساناً عادياً كالآخرين ، نحن لا نشجع على التمايز و لا نعترف بالقدرات الفردية و نكره النشاز بين طابور المقلدين.

نصيحة آخيرة أكررها دائما: لقد ولدت إنساناً فريداً من نوعه ، أنت وحدك تستطيع وضعك بصمتك الخاصة في هذه الحياة. القبور هي أغني مكان في الأرض فهي تحوي الأفكار و الاختراعات و الاكتشافات التي ماتت مع أصحابها و لم تخرج إلى الوجود. لقد ولدت أصلاً فلا تمت مجرد تقليد .. حذار أن تصبح مجرد رقم آخر يضاف إلى الوجود لا يحمل للعالم سوى قيمة صفرية جديدة على يسار الأرقام الشامخة للعظماء و المبدعين و المستكشفين الذين تركوا ورائهم قيماً و انجازات ثابتة وعالماً مختلفاً من ورائهم.