الليلة الثالثة و الأخيرة
بعد أن نجا ليبان و أهله من الألغام التي انفجرت على بعد
أمتار قليلة تم استئناف القصف الجوي والهجوم من قبل الأوغاد. فعلم أهل ليبان
وغيرهم من العائلات أن لا مفر لهم سوى أن يهربوا خارج البلاد حتى لا تطالهم أيدي جنود
وأعوان الوالي الظالم. فكانت أمنيتهم أن يصلوا للحدود الإثيوبية حتى يصبحوا في
أمان وبعد طريق طويل وعناء شديد تجاوزت العائلات الحدود ووصلوا لمدينة تسمى ( ديري
داوا ) في الجانب الإثيوبي، حيث كان يخرج من هذه المدينة قطار يقل الفاريين إلى
دولة جيبوتي المجاورة.
و عندما ركبت
عائلة ليبان القطار تم سؤال جميع الركاب عن أصولهم فقالت أم ليبان أنهم ينتمون إلى
قبائل الشيخ إسحاق فنظر العسكري لها بنظرة مشمئزة وأمر بإنزال كل من ينتمى لهذه
القبيلة من الركاب وتم حبس الجميع في سجن خاص جمعت فيه النساء ولم يكن من الأطفال
سوى ليبان وإخوانه وأمر الباقون بالمغادرة على متن القطار.
و لما رأي العساكر من أمر الصغير ليبان و إخوته تسللت
الرحمة إلى قلوبهم و أخذوا يغدقون عليهم بالأطعمة و خاصة المعكرونة اللذيذة التي
كاد ليبان أن ينسى طعمها فسبحان الله الذي أنزل الرحمة في قلوب الجنود على
الأطفال، و مع ذلك لم يأكل الأطفال كثيرا حيث كانت النساء تشاركن الأطفال الطعام
فهم كما يبدوا لم يروا هذا النوع و الكم من الطعام منذ أمد بعيد فأكلوا وشبعوا و
دعوا الله مخلصين أن تدوم بركة هؤلاء الأطفال وأن يطول مقامهم طالما بقوا في هذا
السجن.
و كان من أمر السجان والعساكر إخراج المحابيس في النهار
لكي يستنشقوا قليلاً من الهواء العليل فكان الصغير ليبان و إخوته يستغلون الوقت
بلعب الألعاب الشعبية، و في مرة من المرات رآئهم راعي إبل بدوي فقال أين أمكم؟
فأشار ليبان على أمه فذهب الراعي إليها وقال لها : ما رأيك أن تعطيني ولدك هذا و
هو يشير إلى ليبان وأنا أربيه لك ليصبح في عداد الرجال برعيه للجمال؟. فأنتم هنا
ربما تموتون ولايفرج عنكم وأنا أكلم العساكر فهل ترضين بأن تعطيني هذا الصبي ؟
نظرت أم ليبان إليه مستغربة غير قادرة على الكلام ونادت
أولادها و احتضنتهم ولم ترد على الراعي البدوي ففهم الرجل بالإشارة أن مناقشة
الأمر بحد ذاته مرفوض في قاموس الأمهات ،
فكيف بأم قاست ومضت في طريق الأهوال من أجل حماية فلذات أكبادها ومضى الراعي في
طريقه مع جماله و إبله من غير رجعة.
وبعد مضي عدة أيام أشفق الحراس على الأطفال وأمهم فأمروا
بهم أن يسافروا في أقرب رحلة في القطار المتجه إلى جيبوتي. وفعلا أتى القطار
واستبشرت أم ليبان بأن أيام الشقاء إلى زوال فهي لديها أقارب في جيبوتي و ستنزل في
ضيافتهم حالما تصل هناك مع أبنائها.ومن الفرحة ركبت أم ليبان القطار على عجل ومعها
ليبان وأخته الصغيرة و لم تنتبه أن ابنها البكر قد ذهب إلى بيت الخلاء لقضاء
الحاجة و بدأ القطار بالحركة و لا يمكن إيقاف القطار إذا تحرك.
و حينما خرج أخو
ليبان ليلحق بأهله وجد القطار قد بدأ بالحركة فركض خلف القطار و رآءه أحد الرجال
في المحطة وهو يركض فأسرع إلى حمله والجرى به ثم رماه في القطار، فجزاه الله خيرا
حيث لم شمل الأسرة من بعد أن كادت تحل بهم العسرة.
واتجه القطار إلى دولة جيبوتي الشقيقة وعندما وصل هناك
كان باستقبال عائلة ليبان أقارب لهم في جيبوتي فأكرموهم أحسن إكرام ، وكان لدى هذه
العائلة الجيبوتية ابنتان توأمان اسمهما نفيسة ونعيمة فكانت نفيسة تدلع ليبان
وتأتي له بالحلوى كل يوم بينما نعيمة كانت تهتم بأخي ليبان وكانت التوأمان
تتنافسان في إرضاء الصغيرين وكان المستفيد الأول ليبان وأخوه حيث شبعوا من الحلوى
الجيبوتية وأنواع الحلوى الأخرى.
مضت الأيام في جيبوتي و الصغير ليبان يشتكى من حرارة الجو
ورطوبته فهو لم يعتد على هذا النوع من الأجواء حيث يتطلب الأمر تغيير الملابس
يوميا لإبتلالها برطوبة البحر فكان الخروج من المنزل بحد ذاته أمرا صعبا في النهار
فكان ليبان يتسلى بمشاهدة التلفاز العجيب الذي كان ينقل مباريات لكرة السلة
الأمريكية.
واستمر ليبان وأخوه بالمشاغبة حتى في جيبوتي فكانوا في
الليل يجمعون الزجاجات الفارغة ويصعدون إلى السطح ومن ثم يرمون الزجاج على المارة
لإخافتهم والضحك عليهم من أعلى العمارة. ولن ينسى ليبان اليوم الذي ذهبوا فيه في
نزهة بحرية للسباحة في شاطئ جيبوتي فأخذ يلعب مع أخيه وفجأة ومن حيث لا يدري ليبان
قبض أخوه على رأسه فأدخله تحت الماء وحينما حاول ليبان فتح عينيه تحت الماء تسلل
الملح إليهما فجلس فترة طويلة يفرك عينيه ألما ومنذ ذلك اليوم وليبان لايحب البحار
ويتعامل مع الشواطئ بكل حذر وانتباه.
و في ليلة من
الليالي رأى ليبان الصغير في منامه أنه مع جدته وخالته في غرفة بيتهم في هرجيسا و
رأى باب الغرفة قد تغير وأصبح نافذة إلى عالم آخر وخرجت منه عجوز شمطاء تريد قتل
الصغير ليبان ، و لكن جدته أمسكت به ورمته في ذاك العالم الآخر وهي تقول له اهرب
من تلك العجوز. فدخل ليبان في ذاك العالم الأخر وبدأ يرى حوله من الخراب ما الله
به عليم و العجوز الشمطاء تلحق به لتقتله و قد اقتربت منه و بيدها سكين حاد.
ليبان يهرب وهي تقترب وهكذا دواليك حتى استطاعت أن تجرحه
في ذراعه بسكينها ولكن الإصابة لم تكن مميتة. فاختبئ ليبان في منزل مهجور وتربص
بالعجوز و كان في وسط البيت المهجور حفرةُ كبيرة فدخلت العجوز فأتى ليبان من
ورائها و دفعها ا إلى الحفرة فوقعت شر وقعة، وهي تستنجد به ليخرجها فنادى ليبان
جموعاً من الناس وبدأو في رمي العجوز بالحجارة والزجاج حتى ماتت. عندها استيقظ
ليبان من المنام و أدرك أنه في مأمن من الحرب و أنها انتهت على الأقل بالنسبة له.
وبعد عدة أشهر صدرت الفيزا إلى السعودية حيث كان يعمل أبو
ليبان منتظراً عائلته بشغف كبير ، فاستقبلهم في المطار و أصبح مسرورا وبالخير
مغمورا. وحمد الله على أن سلم له أولاده وأمهم فخلع على أولاده بخلعةٍ سنية جليلة ،
وأقيمت الإحتفالات ودقت الطبول وزمرت الزمور وكانت ليلة عظيمة لا تنسى من أيام
الله الخالدة. فأقاموا بعدها في نعمة و سرور و لذة و حبور فسبحان الله الذي لا
يفنيه تداول الأوقات ولا يعتريه شي من التغييرات ولا يشغله حال عن حال و تفرد
بصفات الكمال. و الصلاة والسلام على إمام حضرته و خيرته من خليقته سيدنا محمد صلى
الله عليه و سلم سيد الأنام و على آله الكرام أفضل الصلاة وأتم التسليم.
تمت
لقد ابدعت سلمت اناملك
ردحذف