الجمعة، 12 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة




مقدمة:

منذ الصغر و أنا أعشق قراءة القصص و خصوصا تلك القديمة و التي تأخذني بعيداً في عالم الخيال و كنت أقرأ هذه القصص بشراهة منقطعة النظير و تحديدا في مرحلة المتوسطة حيث عمرى حينها لم يكن يتجاوز ال 13 سنة. كنت أجمع مال الفسحة حتى أشترى كتابا و أكتفى بأكل اللحوح على الصباح الباكر و الوالد كان يهديني بين الفينة و الأخرى كتباً، و من أجمل هداياه التي أشكره عليها مجموعة قصص ألف ليلة و ليلة حيث أهداني إياها في عيد ميلادي ال 14 لا أعلم هل هي مصادفة أم أنني حاولت إقناع نفسي بأنني حصلت على هدية عيد ميلاد لأول مرة في حياتي.
ولشدة تأثري بقصص ألف ليلة و ليلة و إعجابي الشديد بطريقة السرد قمت قبل عشرة سنوات تقريباً  بمحاولة لكتابة و صياغة مغامراتي في الطفولة عندما كنت أهرب من جحيم الحرب التي شنها الطاغية سياد بري على الشعب الأعزل في شمال الصومال (صوماليلاند) خاصة هرجيسا مسقط رأسي و مرتع الطفولة. كنت حينها مجرد طفل لا يتعدى الخامسة من عمره و لكن ذاكرتي حملت الكثير من الذكريات التي لا تمحى بسهولة.
 سأسرد لكم على أجزاء قصة حقيقية حدثت معي كما حدثت مع الالآف من الأطفال في جميع أرجاء شمال الصومال خلال تلك الحرب. فقد كنت شاهد عيان و كنت من اللاجئين الذين هربوا بحياتهم، فررت و أنا حافي القدمين لا أملك من الدنيا سوى قميص واحد و بنطال قصير و أمل بالله كبير بأن ينجينا من براثن الجيش الذي غدر بالشعب الذي يفترض أن يحميه و خان القسم بحماية الأرض و العرض. فلنعد بعقارب الساعة إلى الوراء و لنترك بطل القصة الذي اسميته ليبان الصغير يحكي لنا القصة و يروي لنا الرواية من وجهة نظره.

الليلة الأولى


كان يا ماكان فى قديم الزمان و سالف العصر والأوان كانت هناك مدينة سعيدة اسمها هرجيسا يسودها الحب والوئام .كان الكل يعرف الكل الكبير يعطف على الصغير والصغير يرحم الكبير، وفي وسط هذه الأجواء الجميلة ولد صبي صغير اتفق على تسميته ليبان بعد شد وجذب. ولد و ترعرع في المدينة السعيدة بعيداً عن أبيه الذي كان يعمل فى الخليج لتأمين لقمة العيش الكريم لأفراد أسرته كان ترتيب ليبان الفتي الثاني للعائلة الصغيرة.
كان ليبان فتى مشاغبا منذ الصغر حيث كان يذهب إلى الملعامد ليدرس القرآن والحروف الهجائية وهو يحمل في يديه الصغيرتين مايعرف ب ال ( Qambadh ) وهو كرسي صغير له أربعة قوائم يصنع من جلد الماعز . فتارة يهرب ليبان من الملعامد لأنه لم يحفظ وتارة أخرى يتقاتل مع صبي آخر على كرسيه الصغير، كان يحب اللعب و اللهو مع أخيه الأكبر محمد و دائما ما يتسلقان الشجرة الكبيرة في فناء المنزل بخفة ورشاقة. بينما يخرجان في العصر للعب مع أقرانهما و جيرانهما ثم يعودان منهكين بعد المغرب للإستماع إلى قصص جدتهما أو أمهما بعضها جميلة مثل قصص الثعلب و السلحفاة و بعضها مخيفة كقصة السفاحة صاحبة الأذن الطويلة (Dhag Dheer ) التي تحب أكل لحم الأطفال الصغار.
كان ليبان الصغير يذهب في كل يوم جمعة إلى بيت جده لكي يأكل معه المعكرونة الشهية مع السلطة و الموز واللحم اللذيذ ، وكان يحب جده – رحمه الله - كثيرا لأنه كان يداعبه باستمرار ويضحكه بنغزه في أماكن معينة تضحك الأطفال كثيرا. كانت الحياة جميلة إلى أن أتى يوم قام فيه ليبان و أهله من النوم فزعين على صدى طرقات قوية على الباب أيقضت جميع من فى المنزل. وعندما فتحت أم ليبان الباب فإذا هم عساكر الدولة الصومالية (الفقش كما كانوا يلقبون) يبحثون عن الثوار من أهالي الشمال وكان ذلك فى أوائل عام 1988 م ففتشوا فى المنزل ولم يجدوا أحدا فقالوا لنا اذا وجدتم الثوار فأبلغوا عنهم وإلا سترون الويل والثبور.
تدهورت الأوضاع بعد فترة واشتدت وطأة الحرب وأصبحت الحكومة الصومالية ممثلة بمجرميها غاني و مورقن تقصف المدينة قصفاً عشوائياً، بعدما عجزت عن القبض على رجال المقاومة فلم تجد سوى المدنيين لكي تسقيهم من نيرانها لا فرق لديها إن وقع القصف على أطفال أو نساء أو شيوخ فهدفهم إفناء المدينة و سحق أهلها دون تمييز. مع كل هذا كانت أم ليبان وجدته تعتقدان أن الأمور بإمكانها أن تتحسن و أنه لاداعي للفرار من المدينة التى تحولت من مدينة السعادة والهدوء إلى مدينة الجحيم والظلام .
كان ليبان الصغير حينما يخرج إلى فناء المنزل يرى أنواع الصواريخ المختلفة مسرعة وهي تمر من فوق منزلهم الصغير. بالطبع هي ليست ألعاباً نارية كما تعود معظم الأطفال مشاهدتها في الأعياد و الأفراح، لكنها ألعاب صاروخية مميتة تحرق الأخضر و اليابس. وكلما رأت خالة ليبان أنه يخرج للفناء للنظر إلى الصواريخ تزجره وتأخذ بيده لكي تدخله الى المنزل وتقول له : اختبئ تحت السرير لتتقي القصف. فيجيبها الصغير ليبان بشجاعة : وماذا ينفعنا السرير إذا وقع الصاروخ على الغرفة ؟ سنموت في كلتا الحالتين و كأن لسان حاله يقول فلنمت واقفين شامخين إن كان الموت مصيرنا. ثم يخرج ليبان إلى فناء المنزل مرةً أخرى كاشفا عن صدره وحاسراً عن قميصه و هو يخاطب الصواريخ التي تتهاطل من السماء بتحدى مثير للعجب: تعالي أيتها الصواريخ اضربي صدري فلست خائفاً منك.
كان ليبان رغم صغر سنه متضايقاً لبقائه مع النساء و الأطفال فكان يطلب من خاله و أعمامه أن يعطى سلاحاً للقتال كبقية الرجال. وكان الجميع يضحك على طلبه فيزداد حنقاً و لم يهون عليه سوى قول خاله له: إننا نعتمد عليك لحماية أمك و جدتك و إخوتك. أما أبو ليبان فقد كان يتواجد في الخليج أثناء فترة الحرب و كان في حالة من القلق الشديد فهو لا يعلم إلى ما ستؤول إليه الأحوال ولم يكن أمامه حيلة سوى الدعاء بنجاة أهله و أبنائه.
لم تفكر عائلة ليبان بالنزوح إلا حينما وقع صاروخ على منزل الجيران وقتل خمسة من أطفالهم و لم ينجو سوى الأم و ابنها الرضيع خلال زيارتهما إلى منزل أهل ليبان فخرج الجميع لمحاولة إنقاذ الأطفال ،لكن للأسف لم يتبق منهم سوى الأشلاء المتبعثرة تحت الركام حينها صرخت أمهم بشدة و أصيبت بالجنون لاحقا حزنا على فلذات أكبادها و احتضنت جدة ليبان حفيدها محاولة أن تحميه من النظر إلى أشلاء أطفال الجيران الذين اعتاد اللعب معهم.
حينها تيقنت أم ليبان أن لا مقام لهم في هذه المدينة وأنه يجب أن يهاجروا مع المهاجرين هربا بحياتهم . وفي تلك الليلة جمعت العائلة الأغراض والمؤن الضرورية في رحلتهم الطويلة، و قرر أعمام ليبان وجده وخاله البقاء للمقاومة بينما تذهب النساء والأطفال خارج المدينة في طريق رسمه لهم أبطال المقاومة للهروب من النيران و الألغام الأرضية المنتشرة في كل مكان. وحينما اقتربت شمس الفجر من البزوغ كانت عائلة ليبان وبضع عوائل أخرى على أهبة الإستعداد للهجرة تاركين ورائهم مدينتهم و موتاهم وهم لايعلمون ما قد يواجههم من مخاطر وأهوال .

 وأدرك ليبان الصباح فسكت عن الكلام المباح .

يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق