السبت، 13 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة (الليلة الثانية)


الليلة الثانية



كما ذكرنا في الليلة الأولى بأن أهل ليبان استعدوا للهرب والسفر مع بضع عائلات أخرى ومع إشراقة الفجر تحركت العوائل أفواجا صغيرة هربا من جحيم القصف العشوائي الغاشم و الجميع يحمل ما يستطيع من المؤونة والكساء. وكان ليبان الصغير متحمسا للسفر فهو لم يغادر هرجيسا قط، و كان يلبس قميصاً وبنطالاً قصيراً وكان حافي القدميين لا يأبه بحرارة الشمس أو ألم الأشواك الممتدة على طول الطريق.

وكان من نصيب ليبان أن يحمل ( العو ) وهو البساط الذي يجلس عليه وكان الصغير ليبان نشيطا في بداية الرحلة و يسابق أهله ويحثهم على المضى قدماً. وكانت وجهة النازحين مدينة صغيرة تعرف ب ( دلعد ) ، فتارة يمشون على الأقدام وتارة يجدون شاحناتٍ تقلهم على الطريق. يقول ليبان واصفا رحلة الفرار: في النهار كنا نسمع أصوات الصواريخ والطائرات تحلق فوق رؤوسنا تتصيد للشيوخ والأطفال والنساء فكانت كلما اقتربت طائرة انبطحنا أرضاً بلا حراك كأننا أموات حتي لا يطالنا القصف  وفعلا كانت تنجح هذه الحيلة معظم الأحيان.


و طوال تلك اللحظات و الأيام من الخوف والهلع كان ليبان الصغير يرى أناساً ممددين على الأرض فيسأل أمه بكل برآءة الطفولة : أماه لماذا لا ينام هؤلاء الناس في بيوتهم ؟ لماذا ينامون في الشوارع والبراري ؟ فلا تعرف أم ليبان بماذا تجيب على تساؤلات الصبي الصغير ولا كيف تخفف من حيرته تجاه مايراه من كوارث و مجازر إنسانية .

 كان اللاجئون ينامون وسقفهم السماء وبساطهم الأرض وكان ليبان الصغير ينام على صوت الذئاب والضباع في حين ينام أطفال آخرون في الطرف الآخر من الكرة الأرضية على صوت الموسيقى الهادئة وعلى القصص التي تحكي لهم من قبل آبائهم وأمهاتهم من قبيل ال ( Fairy Tales) . مع كل هذا ولله الحمد لم يمر يوم شعر فيه ليبان وأهله بالجوع أو لم يجدوا طعاما وكان أهل البادية يضيفونهم بما يملكون و كان طعام اللاجئين اللحوح و العدس، العدس الذي لم يكن أهل هرجيسا يأكلونه من قبل وكانوا يطعمونه للماعز ولكنه كان طعاما لذيذا في وقت العسرة.

و مع استمرار المشي لمسافات طويلة تعب ليبان الصغير وكانت جدته تمشي بجانبه وهي تحمل أخته الصغيرة على ظهرها. فقال لها ليبان : جدتي مارأيك أن تحمليني ولو لمدة قليلة فقد تعبت ؟ وكانت الجدة فطنة و أجابت على الفور : ولدي ليبان يشتكي ! (وي تولاي) إذاً سألقي بأختك تحت هذه الشجرة ونتركها تعال أحملك بدلاً عنها، عندها أحس ليبان الصغير بما ترمي إليه الجدة. فقال : ياجدتي هذه أختي وهي صغيرة وهي أولى مني بالرعاية سأمشي وأحتمل عناء الطريق.

وفي أحد الأيام بينما كان يتمشى ليبان مع الصبية يجمعون الحطب لإشعال النار إذ بمجموعة من الحيوانات يشاهدها ليبان للمرة الأولى تجرى ورائهم فهرب ليبان الصغير مع أقرانه باتجاه أهله خوفاً وطلبا للحماية منها. وعندما وصل الصبية إلى أهاليهم وظنوا أنهم في أمان تفاجأوا أن الحيوانات لحقتهم إلى حيث أهاليهم فاستنجد الصبية بأهلهم فضحك الكبار على الصغار وقالوا لهم : لاتخافوا هذه مجرد خرفان صومالية ذو رؤوس سوداء تعرف ب( البربري ) عندها اطمئن الصبية وعرفوا أنه حيوان أليف لا يعض ولا يقتل.

وكان من هذه الحرب الشعواء أن دمرت عشرات الالآف من البيوت في المدينة السعيدة هرجيسا وقتلت ما يقارب المائة ألف من أهلها وحينما كان العالم يسأل الطاغية لماذا تقصف الشعب المسكين كان يقول دعوهم إنهم يهود الصومال وأنا أطهر الأرض منهم. و كان الأطفال الصغار بما فيهم ليبان ينشدون نشيدا نكاية بجنود الطاغية وكان الأطفال يقولون ويرددون (فقشي فوقوشي فطتا قبوبدي) وكان الأطفال سعيدون بترديد هذه العبارة صباح مساء .

ولحسن الحظ وجدت بعض العوائل الهاربة شاحنتين كبيرتين فعرض سائقا الشاحنتين توصيل العوائل في طريقهم لكي يرتاحوا ولو قليلا من عناء السفر على الأقدام. فتوزعت العائلات بين الشاحنتين وكان من نصيب عائلة ليبان أن ركبوا الشاحنة الأولى ومضت الشاحنتان في طريق معلوم رسمته المقاومة حتى لايقعوا في فخ الألغام التي كانت منتشرة في تلك الأيام بأمر من الحاكم الظالم سياد بري.

وكانت الشاحنتان متباعدتين وذلك تحسباً من أن يلحظهم العدو، ولسوء حظ الشاحنة الثانية ولإنقضاء أجل من فيها استعجل السائق وخرج عن المسارالمحدد فانفجرت بهم الألغام فقتل جميع من كان في الشاحنة في الحال و اهتزت الأرض من تحت الشاحنة التي تقل ليبان وأهله حتى كادت أم ليبان أن تسقط من الشاحنة ولكن أيادي جدة ليبان وبعض النساء تلقفت أم ليبان و أعادتها إلى الشاحنة فمضى البقية الباقية من اللاجئين في سبيلهم مذهولين مذعورين حيث ترحموا على الأموات وحمدوا الله على أن أخرجهم سالمين و لو إلى حين.

و أدرك ليبان الصباح فسكت عن الكلام المباح.


يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق