الجمعة، 13 سبتمبر 2013

ما بين الفجر و الفجر (رحلة سفر)



الخميس 29 أغسطس 2013 م 

في آخر ليلة لي في هرجيسا كان يتوجب علي أن أنام باكرا و استعد للسفر فجر الخميس, لكنني كنت على موعد مع بعض الأصدقاء في فندق مانصور عصر الأربعاء و كنت أنوى العودة مباشرة بعد صلاة المغرب. لكن الأمطار داهمتنا و نحن في الفناء الخارجي في الفندق مما اضطرنا للجلوس في مكان مظلل يحمى رؤسنا من المطر الذي يتهاطل حولنا بغزارة و الذي يصر على أن يتسلل إلينا محملاً بنسمات الهواء البارد الذي يحمل معه ذرات من الأمطار التي تلامس وجوهننا بين الفينة و الأخرى كأنها يد حانية. و كانت النقاشات جميلة حول مواضيع عدة منها السياسية و الإجتماعية و الأدبية, و الأصدقاء حولي يتندرون علي و يقولون استمتع بالمطر فلن تجد مثله في السعودية. 

أخيرا استطعت العودة في الساعة التاسعة مساءاً بعدما ودعت الأصدقاء, فالوقت أمامي ضيق بين ترتيب شنطتي للسفر و مجالسة الأهل, كان عشائي الآخير عبارة عن وجبة تسمى ( كميس ) و هي لحوح ممزوجة بالبيض يتم تناولها مع كوب من الشاهي عديس (شاي بالحليب). و جلست مع الوالد و الوالدة أتبادل معهم أطراف الحديث و استمع بإهتمام لنصائحهم. بعدها قضيت بعض الوقت في ترتيب شنطتي و في الحقيقة لم يكن معي الكثير من الملابس لكن كان لدي الكثير من الكتب التي اشتريتها من معرض الكتاب في هرجيسا بما يتعدى مجموعه العشرين كتاباَ أثقلهم وزنا القاموس الصومالي بعدد صفحات يفوق ال 1500 صفحة بالإضافة لبعض الأدوات التراثية الصومالية.

في منتصف الليل كان إخواني على موعد للفرجة على مباراة السوبر الإسباني بين برشلونة و اتلتيكو مدريد. حقيقة لم أعد شغوفا كما كنت بكرة القدم, لكنني وجدت نفسي بين الفينة و الأخرى أذهب و أتفرج معهم على بعض مراحل المباراة التي انتهت بالتعادل السلبي و تتويج برشلونة بالكأس لتعادله الإيجابي السابق في ملعب الخصم. لم أستطع النوم إلا في الساعة الثانية ليلا و استيقظت الرابعة فجرا لكي أكمل اللمسات الأخيرة للإستعداد, فطرت قبل الفجر بعدما أنهيت استعداداتي و سلمت على الأهل و ودعتهم. ذهبت مع الوالد لأداء صلاة الفجر في مسجد إبراهيم طيري (الطويل) في مركز المدينة و ذلك حتى نذهب مباشرة لعمارة الخير حيث مقر شركة الطيران الإثيوبية.


باص الخطوط الإثيوبية:


وصلنا هناك في الساعة الخامسة و النصف صباحاً و كان الجو بارداً حتى أن الوالد عرض على ان يعطيني (الشال) الخاص به حتى أحتمى من البرد. لكنني رددت عرضه بلباقة لأن هذا الشال الكشميري لم يكن سوى هدية أهديتها للوالد, أما أنا فإنني أحتمل البرد فما زلت شاباً كما أنني ما زلت أحتفظ ببعض الوزن الزائد الذي أعتبره كطبقة عازلة للبرد في مثل هذه الظروف. لم نلبث طويلا حتى قدمت ثلاثة باصات تتبع للخطوط الجوية الإثيوبية بعد ربع ساعة من وصولنا, أسرعت إلى أحد الباصات و حجزت مكانا في مؤخرة الباص حيث وضعت حقيبة يد صغيرة و أوصيت أحد الشباب الذي كان يبدوا من لهجته أن قادم من بريطانيا بحفظ المكان لي ريثما أعود, و بعدما تأكدت من تحميل حقيبتي أعلى الباص اتجهت لتوديع الوالد و السلام عليه.

عدت للباص من جديد و حينما ههمت بالجلوس في مكاني , أوقفني الشاب البريطاني و قال لي هذا المكان محجوز لأحد الشباب. فابتسمت وقلت له : أنا هو ذلك الشاب ربما لم تتعرف علي في الظلمة بسبب لون البشرة. و بعدما أكد ركاب آخرون هويتي تراجع عن موقفه فجلست في مكاني بجوار الشاب البريطاني, حينما شارف الباص على الإمتلاء قدم علينا رجل يحمل شنطة حمراء كبيرة و جلس في أحد الكراسي في الوسط التي يتم طيها حسب عدد الركاب ووضع شنطته الحمراء في حضنه. فقالت له امرأة كانت تجلس أمامي يبدوا أنها أم الشاب البريطاني : لن تستطيع الجلوس هكذا طوال الرحلة , إما أن ترفع الشنطة في أعلى الباص مع بقية الشنط أو تجلس في الخلف مع شنطتك. الرجل قال أن الشنطة فيها إبر طبية و ربما تنفجر مع حرارة الشمس فقرر العودة للخلف مع شنطته بجواري أنا و الشاب البريطاني. 

اتضح لاحقا أن أحدهم كان قد وضع بلوفر أسود في الكرسي الآخير و هذا الرجل جلس بجواره ووضع شنطته الجمراء مكان البلوفر. و بعد مدة عاد الرجل صاحب البلوفر فطالب بقعده و حينها قال الركاب و في مقدمتهم المرأة إن معه حق إن كان هذا مكانه و جاء يطالب به, الحاصل أن الرجل بتاع الشنطة الحمراء أبى أن يتحرك و في النهاية تم إقناع الرجل بتاع البلوفر أن يبحث عن مكان آخر في الأمام. الرجل بتاع الشنطة الحمراء كان من بونتلاند أساسا فغضب و أخذ يجادل و يقول للمرأة تعاملونني هكذا لأنني ضيف عليكم يا أهل هرجيسا. فدافعت المرأة عن موقفها و بجوراها امرأة أخرى أيضا تبدو صديقتها من بريطانيا و من لهجتها تبدو من مقديشو كما صرحت لاحقاً وقالت له كلنا ضيوف هنا ما دام قدمنا من الغربة و لكن نتكلم عن الحق و حتى المرأة الآخرى جاوبته وقالت أنا من مقديشو و قلت نفس الكلام يبدوا أنك انسان معقد!

المهم الرجل واضح أنه صومالي عنيد و اتخذها مناسبة للحوار و الحديث و اتضح أنه متجه للسويد, و أصبح يتبادل الحديث مع المرأتين عن أوربا و أحوالها بعدما هدأت الأمور, و حكى لنا كيف أن زوجته الصغيرة في العمر و التي أخذها من الصومال للسويد تبلت عليه أمام القضاء و اتهمته بسوء المعاملة و طلبت الطلاق و أن ترعاها الدولة و الرجل يقول أنها تستمع لكلام نساء مخربات للبيوت. و حكى لنا أنه حينما أرسلت الحكومة لجنة نسائية لتقصي الحقيقة لم يجدوا أي آثار لسوء المعاملة, بل أنهم انفجعوا من امرأته حينما هددت بإسقاط حملها منه حينها تيقنوا أنها كاذبة في كل ما تقول. لكنه طالب بإبقاءها في السويد و رعاية طفلهما القادم, كانت الروايات التي سمعتها في الباص عجيبة مما جعلها رحلة ممتعة بين بربرة و هرجيسا مليئة بالنقاشات و الراويات لمدة ثلاثة ساعات. كما أنه كان معنا أناس متجهون لأماكن مختلفة أحدهم يتجه إلى لندن و الآخر إلى واشنطن دالاس و آخرون لاستكهولم و البعض لكمبالا و الخرطوم و السعودية.

و كان من بين أغرب هذه الأخبار و الرويات ما روته لنا أم معها ابنتان إحداهما متجهة إلى الخرطوم لدراسة الطب, فكانت تحكي لنا هذه الأم أنها تعرف امرأة في البادية تلد كل عام ففي عام تلد ولادة طبيعية معتادة لبني آدم إما صبي أو بنت و في العام الآخر تلد حيوانا هجينا بين الآدمية و الحيوانية و حسب الرواية أنها ولدت سلحفاة و ضب و غزال توأم بعضهم قد مات و بعضهم حي أخذته الحكومة الصوماليلاندية في عهد طاهر ريالي. و الغريب أن الركاب كانوا متحمسين معها و يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم و البعض الآخر اقترح أن يأتوا بفريق أجنبي يفحص هذه المرأة لأنه يحبون دراسة هذه العجائب و الغرائب. 

و حينما سألنا المرأة لماذا أصيبت بهذه الحالة الغريبة قالت تعتقد و الله أعلم أن السبب أن زوج تلك المرأة كان قد قتل أمه بالسلاح الناري و هي تترجاه ألا يقتلها فأصيب بهذه اللعنة. و على الفور أضاف الراجل بتاع الشنطة الحمراء أنه يعرف أحدهم في قالكعيو نصف جلده أبيض و نصفه لون عادي أسود, فكان يقال أن النصف الأبيض هو الجزء الذي استخدمه في ضرب أبيه فأصيب بهذه اللعنة الجلدية!. كما أن نفس المرأة أخذت تضحك و تسخر من عدم أتقان ابنتها المتجه إلى الخرطوم للغة الصومالية و أخذت تحكي لنا بعضا من المواقف الطريفة التي أخطأت فيها الفهم للغة الصومالية و شارك الركاب القادمون من أوربا بقصص مماثلة لأبناءهم.

الأحاديث كانت متنوعة و مثيرة حتى وصلنا إلى أو برخدلي و توقفنا عند واديها الذي كانت تجري فيه بقايا سيول من أمطار البارحة, و حالما رأيت طوابير السيارات و نزل بعض الركاب قررت النزول لرؤية الوادي و السيل. رأيت شاحنة تسحب أخرى بالسلاسل و الطوابير تبدو من الأفق في الطرف المقابل للوادي لسيارات تريد العبور للجهة المقابلة. اندمجت مع الموقف و تعاطفت مع أصحاب السيارات التي تعطل بهم المسير و هم يلومون الحكومة و يقولون أنها لم تقدر أن تشيد لنا جسرا فوق الوادي و في الآخير سمعت أحدهما يدعى و يقول: يا رب أعطنا دولة!. و بينما أصور المشاهد صورة و فيديو تمكنت الشاحنتان من عبور الوادي فاندفعت سيارة لاندكروزر تابعة للأمم المتحدة و تخطت الوادي بقوة الدفع الرباعي. بعدها تشجعت بقية السيارات للعبور و في مقدمتها الباصات و بينما أصور إذ أفاجأ بأن الباص الذي كان يقلني يجتاز مسرعاً الوادي و يتركني خلفه مع السكان المحليين و السيارات العالقة في الطرف الآخر.




و حينما تأكدت بأن الباص قد تركني لم أقلق كثيرا, فقد جالت بسرعة في رأسي حلول كثيرة بعضها يتضمن استئجار سيارة أو أن أطلب من أحدهم أن يقلني للطرف الآخر من الوادي أو في أسوأ الأحوال أزور قبر الشيخ أو برخدلي المجاور الذي طالما رغبت في زيارته و بعدها ربنا يحلها. سألت أول سيارة بأن تقلني للطرف الآخر فرفض صاحبها و لم أجادله فالموقف صعب و هو يخشى أن يأخذه السيل. لحسن الحظ وجدت باصاً يحمل علامة شركة دالو للطيران فتحدثت مع السائق و قلت له الموضوع, فقال أنا أيضا أعمل مع الخطوط الإثيوبية اركب معي أوصلك. ركبت معهم و كان الباص ملئ بالمسافرين و لم أجدا مكانا للجلوس فوقفت و كأنني كما يقال باللغة المحلية (( كرشبي )) الولد الذي يجمع المال من الركاب. 

وادي أو برخدلي حيث تركني الباص

الحمدلله اجتزنا الوادي و السيل بنجاح و في الطرف المقابل وجدت الباص الذي كان يقلني, فأسرعت بركوب الباص الذي كان يقلني ابتداءاً وسط لوم السائق لزميله بتركي على الوادي. استقبلني الركاب بحفاوة و قالوا: والله صرخنا على السائق و أخبرناه أن هناك شاب لم يركب بعد لكنه لم يسمع لنا, و أكثر من صرخت هي هذه البنت الحمرية يبدو أنها عشقتك هذا حسب تعبير الراجل بتاع الشنطة الحمراء! و الغريب أنني وجدت هذه البنت قد استولت على مقعدي وتمددت فيه لتنام. فقلت لهم : تركتوني و بعدين قسمتم الورث و أنا حي ؟ المهم تركتها تنام في مقعدي و جلست في مقعد آخر أقل راحة, فللأمانة كنت سعيدا لمجرد أن ركبت الباص مجددا.مضينا في الطريق و نحن ندعوا الله أن لا نواجه سيولا أخرى لأن الطريق بين بربرة و هرجيسا ملئ بالأودية و خاصة وادي (دعر- بدق) الكبير و الذي جرفت سيوله قبل عدة أيام أحد سلاطين القبائل الذي كان متوجها لمهمة للتوسط لحل خلافات قبلية توفي على اثرها السلطان و من معه. 


مطار بربرة الدولي:


الحمد لله لم نواجه سيولا أخرى في الطريق, وصلنا لمطار بربرة في الساعة التاسعة و الربع صباحاً. و كان الجو فيه شي من الحرارة رغم هبوب بعض الرياح الشديدة, دخلنا للمطار و تم تفتشينا و بعدها ذهبت لوزن الشنطة و تأكيد الحضور و الحمدلله كان وزن الشنطة 26 كيلو و نصف و لم تتخطى الحد المسموح به و هو 30 كيلو. ذهبت بعدها لكي أدفع لأمن المطار تعرفة بقيمة 10 دلارات و بعدها توجهت لقسم الهجرة حيث طلب مني دفع 34 دولار إضافي هي قيمة الرسوم على الجوازات الأجنبية. و أنا معي الجواز الصومالي الإلكتروني (بتاع عبدالله يوسف), فسألتهم كم تأخذوا على الجواز الأخضر القديم قالوا فقط 10 دولار. فقلت له: هل حكم علينا أن نكون أجانب في الغربة و في وطننا كذلك؟ أنا لم آخذ هذا الجواز بإرادتي و لكنه فرض علي من السفارة إذا عندكم جواز خاص بصوماليلاند أعطوني إياه و سآخذه و لكن لا أرضى أن تعتبر جوازي أجنبياً. هذه المرة كنت مقررا أن أدفع و لا أجادلهم لكنني فعلت على أي حال.

و كان بجواري شاب آخر يحمل الجواز البريطاني فقال لي الموظف: هذا أيضا مواطن صوماليلاندي و نعرف ذلك لكن بما أن معاه جواز آخر فيجب أن يدفع. قلت له: هو معه على الأقل جواز عالمي يستطيع أن يسافر به إلى أي مكان في العالم لو كنت مكانه لدفعت 100 دولار. لكن أنا جوازي صومالي و فقط أتنقل بين السعودية - هرجيسا فهل أستحق نفس المعاملة؟ فهز رأسه و قال : والله معاك حق, فقلت له تفضل المبلغ على كل حال. و في هذه الأثناء رأيت الراجل بتاع الشنطة الحمراء لا يريد دفع ال 10 دولارات للأمن بحجة أنه صومالي رغم أن معه جوازا سويدياً. فقال له الموظف قبل يومين حتى أمي أخذت منها هذا المبلغ فهو على الجميع , و أنا أيضا قلت له نفس الكلام بأن الجميع يدفع هذا المبلغ. انتقلنا بعدها لقاعة الإنتظار و لحسن الحظ كانت هناك شبكة واي فاي مجانية للمطار.
لم ننتظر طويلا حتى قدمت الطائرة الإثيوبية, فركبنا الباص متوجهين للطائرة و مرة أخرى رأيت الراجل بتاع الشنطة الحمراء يشتكي للناس المبلغ الذي دفعه و هو يقول: كلموا سيلانيو لا يفتن بين الصوماليين لا يوجد بلد في العالم يدفع فيه 74 دولار. فقيل له كيف 74 دولار قال: دخلت قبل يومين من وجالي و أخذوا مني 30 دولار غير ال 44 التي دفعتها اليوم فقال له أحدهم لا تستمعوا لهذا الرجل أنا أعرفه لقد طرده فراولي من بونتلاند و خسر انتخابات لهذا هو غاضب. و حينما نزلنا من الباص متجهين للطائرة حاولت أن أطيب خاطر الرجل و قلت له حتى أنا دفعت لنفس المبلغ فتفاجأت بأن قال لي: أنت بالذات لا تكلمني! فتعجبت منه و تركته و أنا أقول له: و هل سأدخل الجنة بحديثي معك؟ 


أديس أبابا:

مطار أديس أبابا الدولي

استمرت الرحلة بين بربرة و أديس أبابا قرابة الساعتين من الزمن و وصلنا إلى العاصمة الإثيوبية في الساعة الواحدة ظهراً و على غير العادة جهزت لنا الخطوط الإثيوبية تصاريح سكن في فندق مع وجبات الغداء و العشاء في انتظار رحلتنا القادمة في الحادية عشر مساءاً. ركبنا كمجموعة في باصات إلى فندق يبدو أنه جديد و في الطريق شاهدت أديس أبابا بطبيعتها الجميلة و جوها الغائم و الماطر على الدوام, و كان من الواضح التطور العمراني في المدينة فبناء العمارات و المنشئات الضخمة تجري على قدم و ساق. ارتحنا قليلا في الفندق و بعد وجبة الغداء قررت أن أخرج و أتمشى بالقرب من الفندق و أنا أرى صبية تلعب الكرة و أحياء فقيرة في الجوار تتجول فيها الكلاب ذات الفراء الكثيف في جو جميل من رذاذ المطر, مالبث أن تحول إلى هطول شديد للأمطار اختبئت قليلا على أثره في أحد الأسواق القريبة, و بعدما رأيت أن المطر لن يتوقف قررت العودة للفندق و أنا مبتل تارة أهرول و تارة أمشي بتؤدة مستسلماً لهذه الأمطار الغزيرة بينما الناس حولي يحملون المظلات التي لا تفارقهم و كأنها جزء من حياتهم اليومية.

في السابعة و النصف مساءا عدنا مرة أخرى للمطار عبر باص المطار الذي كالعادة شهد حوارات متعددة, و تعرفت فيه على امرأة سويدية قدمت معنا من هرجيسا و حسب إفادتها بأنها في هرجيسا منذ نهاية شهر مايو الماضي في زيارة عملية لإكمال بحثها في ال بي. اتش . دي (PHD) عن موضوع التهريب. و كان هناك رجل صومالي ذاهب إلى السويد يهز برأسه بأنه ضد التهريب و أن هذا الأمر لا يرضيه, على العموم كانت تبدوا سيدة لطيفة تبتسم و تضحك على كل كلمة تقولها. فسألتها هل حضرتي معرض هرجيسا للكتاب فقالت بأنها فرحة بالمعرض و حضرت معظم الأيام و لم تتوقع هذا الحراك الثقافي في البلد و أبدت سعادتها البالغة بمقابلة الشاعر المشهور هدراوي, فسألتني عن أكثر المتحدثين الذين جذبوني فقلت لها ماري هاربر و البريطاني ويليام هامش, كما أبدت استعدادها للمشاركة في العام القادم كأحد الضيوف في حال أنهت بحثها عن التهريب. و بينما نحن في هذا الحديث على أعتاب بوابة المطار رأينا امرأة اثيوبية قصيرة تحمل شنطا ثقيلة و تدفها في عربة و يبدوا أنها عاجزة عن دفعها لأعلى المنحنى على بوابة المطار فاستنجدت بنا و دفعت لها العربة حتى بوابة المطار. 

مطار أديس مطار جميل و ضخم و تجد فيه كل الجنسيات العالمية تجد الألمانين والصينين و الأمريكان و الأوربيين و الأفارقة بدولهم المختلفة غانا نيجيريا أوغندا جنوب أفريقيا, يبدوا مطارا نشطا و مزدحما طوال الوقت. و قد أخذوا بصماتنا و صورنا مثلما كان الحال في مطار بربرة أيضاً يبدوا أن كل دول العالم طبقت نظام البصمة. و في أثناء انتظار الرحلة تجولت في محلات المطار المنتشرة و كانت تشدني المحلات التي تبيع الأغراض التراثية الإثيوبية بالإضافة للكتب. و لسوء حظي لم يتبقى معي سوى عشر دولارات و وجدت كتابين أحببت شراءهما لكن لم أستطع الأول عن مدينة هرر و تاريخها بالصور و الأرقام و الثاني عن القصص التراثية الإثيوبية يبدو أن لديهم قصصا و تراثا مشابها لما عندنا خاصة في مجال قصص الحيوانات. في النهاية قلت لهم هل عندكم كتاب ب 10 دولارات فقالوا لي عندنا كتاب عن تاريخ هيلاسيلاسي آخر امبراطور اثيوبي تفحصت الكتاب و شعرت بشئ من الضيق تجاه هذا الامبراطور الذي في عهده تم تقسيم البلاد الصومالية و إهداء بعض أراضيها له. لوهلة تخليت عن حياديتي و موضوعيتي في اختيار المادة التي أقرأها, أصبحت كبدوي صومالي لا يريد سماع أي مأثرة أو تمجيد في عدوه فرفضت كتاب سيلاسي و تفحصت بقية الكتب ووجدت كتابا للزعيم المناضل مانديلا بعنوان (Long Walk to Freedom) فسألت البائعة و ماذا عن مانديلا؟ قالت هو أيضا بعشرة دولارات فلم أتردد و دفعت مباشرة فماديبا يستحق أكثر من ذلك بكثير ..

و حينما اشتريت الكتاب ذهبت إلى أحد الكراسي المنتشرة في المطار و هي على شكل منحي أشبه بالسرير يمكنك الإستلقاء عليها و النوم, و بينما أهم بالإستلقاء لأرتاح قليلا وجت أحدهم يلوح لي من خلف حاجز زجاجي. و إذا به صديقنا التنزاني العزيز عبدي طالب أبو طالب و هو من زنجبار و يدرس PHD في جامعتنا, كما كان أحد الذين رافقنا في رحلة الحج العام المنصرم. الحاجز الزجاجي كان عازلاً للصوت فكنا تقريبا نتبادل التحية و الكلام بالإشارة فأحببت أن أسأله عن رقم البوابة المتجهة إلى الدمام فلم يفهمني و اضطررت في النهاية أن اكتب سؤالي في ورقة ثم عمد إلى يديه فشكل الرقم 8. اشرت له إلى أنني سأرتاح هنا قليلا ثم ألحقه في صالة المغادرة. 

و بعد مدة ذهبت لصلاة المغادرة و وقفت في خط طويل لاحظت فيه مشاهد متقطعة : 

رجلان صينيان يتحدثان الصينية و معهما تذكرة حمراء بالأحرف الصينية 

أبوان أوربيان يداعبان صبيا أفريقياً لا يكاد يتجاوز الخامسة يبدو أنهما قد تبنياه قريباً و كانت الأم بالذات متفاعلة مع الصبي

قائمة الرحلات على الشاشة الإلكترونية تتبدل لتؤكد إقلاع بعض الرحلات في وقتها بينما تم تأجيل أخرى, و بينما أراقب هذه القائمة رأيت أعلى القائمة رحلة متجهة إلى تل أبيب!

أب صومالي معه صبيان يتكلمان معه بالإنجليزية يبدو أنهم من بريطانيا حسب اللهجة, الابن الأصغر يزعج أخاه الكبير بترديد كلام لا معنى له يبدو أنه لقب ما اخترعه الأخ الصغير ليزعج به أخاه الأكبر الذي يستنجد بوالده لكي يسكت أخاه المزعج (Please tell him to Shut Up), في هذه الأثناء الأب تارة يكلمهم بالصومالي و تارة بالإنجليزية بينما الإبن الأكبر يرتدي سلسلة فضية حول عنقه

عائلة ألمانية تتحدث مع أحد الموظفين بإنجليزية ركيكة يبدوا أنهم يواجهون مشكلة ما في رحلتهم 

رجل صيني يحمل حقيبة رياضية على ظهره يجري من على بعد يبدو و كأنه مستعجل للحاق برحلته

بعد هذه المشاهد و بعد التفتيش دخلت لقاعة المغادرة رأيت جماعة صوماليين بينهم شاب رأيته في رحلة ذهابي من الدمام و الآن يصادف أن رأيته في رحلة العودة, هذا الشاب يشبه كثيرا العداء البريطاني مو فارح, فقلت له إنك تشبه مو فارح فضحك و قال أنت الشخص الثالث الذي يقول لي هذا الكلام هذا اليوم. قبل قليل أوقفنى أحد رجال الأمن في المطار و طلب أن يأخذ معي صورة على أنني محمد فارح و لم يصدقني حينما قلت له أنني لست هو!. الشاب تعرف علي و اتضح أننا كنا أعضاء في نفس الفترة الزمنية في أحد المنتديات الصومالية سابقا و أبدى ترحيبا كبيراً حينما عرفني بلقبي حينما كنت أسمي نفسي بليبان, استأذنته و عدت إلى صديقي التنزاني الذي جلست معه فقال لي أنه قدم من زنجبار متوجها إلى الدمام و كان الحزن يبدو على وجهه, فحاولت التنفيس عنه بموقف مضحك ارتكبه في منى في موسم الحج. لكن محاولتي لم تنجح كثيرا فالرجل كان حزينا لفراق أهله و زوجته الحامل التي قد تلد خلال الأسابيع القادمة و كان يفكر كثيرا بالعودة إلى بلاده ليعيش سعيداً بجوار أهله و أولاده.

كان أكثر ركاب الطائرة من الخادمات الإثيوبيات اللآتي استقدمن للعمل في السعودية و لكن أعدادهم لم تكن بضخامة العام الماضي, و في الطائرة جلس بجواري رجل صومالي يحمل الجنسية السعودية يعمل معلماً و صحفيا في أحد الجرائد المحلية و يكتب تقارير اجتماعية و كان مرافقا لصديقنا الشبيه بمو فارح. كان رجلاً مثقفا و خلوقاً و يعمل الكثير في هرجيسا في مجال الأعمال الخيرية , و بعد حديث طويل و تناول وجبة العشاء تسلل النوم إلى عيني بعد تعب و مشوار طويل و لم استيقظ إلا على الساعة الثانية و النصف صباحاً مع اقتراب هبوط الطائرة في مطار الملك فهد بالدمام. ودعت الرجلين الصومالين إذ أفجأ بأنهما ودعاني باسم ليبان يبدو أن هذا الإسم علق في ذهنيهما و لم أحاول تذكيرهم باسمي الحقيقي. انهيت اجراءات القدوم و أنا شبه نائم و الحمدلله وصلت بالسلامة إلى المنزل في الساعة الرابعة على آذان الفجر , و بهذا انتهى يوم كامل في السفر ما بين الفجر و الفجر .. فجر في هرجيسا و آخر في السعودية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق