الإنطباع الأولي خاصة إن كان ايجابياً له سحره و رونقه الفريد, حينما
ترى شيئاً أو شخصاً أو أرضاً للمرة الأولى تأسرك تلك اللحظة و يصعب أن تضاهيها
لحظات لاحقة. مثلاً حينما تتابع برنامجاً للمواهب و تشاهد العرض الأول دائما ما تكون
هناك لحظات مفاجئة و لا تعلم ما ستراه, و ربما تُعجب بأداء أحد المشتركين و رغم
أنه قد يؤدي لاحقاً أفضل من أدائه الأولي و ربما يكون أو تكون أكثر تأنقاً و
تألقاً. لكن يبقى الأداء الأول هو الحدث الأبرز الذي تستدعيه من الذاكرة كلما تذكرت
هذا المتسابق أو ذاك.
جزء من الإثارة يمكن في عدم معرفة ما ستخبره في العرض الأول لأنه حدث
جديد عليك, فتبقى متقد الذهن منتبهاً للتفاصيل الدقيقة حتى تأتي لحظة الانبهار أو
خيبة الأمل. و مع مرور الأيام تتراكم لديك خبرات مسبقة تستطيع الاستعانة بها لتخمن
طريقة الأداء بصفة عامة. نفس هذا الأمر قد ينطبق على العلاقات مع الأشخاص أو
الأماكن, فقد يفقدك تكرار التجربة الاستمتاع بكل التفاصيل البسيطة و الجميلة و
تبدأ في إهمالها مع مرور الوقت.
كثيرون منا لا ينسون أول يوم في المدرسة, أول يوم في العمل, أول يوم
في الجامعة, أول زيارة للوطن إذا كنت مغترباً و قس على ذلك في مختلف التجارب. سأتحدث
اليوم عن إحدى هذه اللحظات أو البدايات الساحرة, سأتحدث عن رحلتي عام 2003م و
العودة إلى هرجيسا بعد 15 عاماً من هجرتي منها و أنا طفل صغير لا أكاد أبلغ
الخامسة من عمري. تلك اللحظة التي انتظرتها طويلاً و أنا أمني النفس بالعودة إلى
أرضي التي أخرجت منها بالقوة الجبرية و الحرب الأهلية.
كنت قبلها بسنوات أتابع أخبار البلاد و كنت أجلس كل يوم أتابع النشرة
الاذاعية لمحطة البي بي سي الفرع الصومالي مع الوالد في الخامسة عصراً و التاسعة
مساءاً. و كنت أبحث بلهفة عن أي معلومة عن الصومال في المكتبات رغم ندرة الكتب,
فكان أول كتاب اشتريته من مصروفي المدرسي و أنا في المرحلة المتوسطة كتاب "
الصومال و جذور المأساة الراهنة" إنه أول كتاب عن بلدي لذلك دعنا نصنفه في
قائمة (سحر البدايات). و لا أنسى ذلك اليوم الذي استعار لي أحد الأصدقاء سبعة كتب
ضخمة تتحدث عن الصومال و احصائياتها, أخبرني أن لدي مهلة اسبوع واحد فقط لإنهاء
قراءة الكتب السبعة قبل أن يعيد الكتب و بالفعل أنهيتها جميعاً في الموعد المحدد.
لم أكن أكف عن ذكر مناقب و محاسن الصومال
أمام الأصدقاء و الزملاء رغم تلك الدعايات التي كانت تدعوا للتبرع للجائعين في
الصومال و البوسنة و الهرسك. كنت أرفض تلك الصورة السلبية و أرسم في مخيلتي صورة
جميلة لمستقبل جميل لأبناء شعبي. و حينما كان المدرس يسألنا في درس التعبير عن
أحلامنا كنت أجيب بقطعة فيها الكثير من الطموح الممزوج بسذاجة الأطفال. أخبرته
بأنني أحلم أن أطير كطير لا يأبه بتكالب الصيادين عليه فاردا جناحيه يطير بسعادة و
أخبرته بأنني أحلم بأن أصبح رئيسا للصومال و من ثم رئيسا للإتحاد الإفريقي و من ثم
رئيسا للأمم المتحدة و قتها كنت أعتقد أن الأمم المتحدة تسيطر على العالم و أنها
أقوى من أمريكا.
و أخبرته بأنني حلمت بفتح القدس و تحريرها
من اليهود, و أن أصبح غنيا و ثريا لأساعد كل فقراء العالم و أبني بيتا و مدرسة
لتربية الإيتام.حلمت بإطعام كل فم جائع في إفريقيا حلمت بأن أكون أبا للمساكين, حلمت
بأن أرجع للوطن و أستقر في هرجيسا و أبني مدينة عصرية في غمضة عين مستعينا بفانوس
علي بابا السحري , حلمت بالمحافظة على النباتات و الغابات و الطبيعة الخلابة لبلادنا
, حلمت بإمتلاك مزرعة كبيرة في جبال شيخ أجمع فيها الخيول و الأنعام أركبها و أذهب إليها كل
صيف لأمتع ناظري من جمال الطبيعة الخلابة و أركب الخيول العربية و الصومالية
كفارس شهم أمير كريم.
حلمت بإستخراج النفط من الصومال ,حلمت بأنني
أفتتح دورة للألعاب الأولمبية في أولمبياد هرجيسا عام 2050 م , حلمت بصنع
المحبة و الألفة بين البشر و أن نعيش في مدينة فاضلة الكبير يعطف على الصغير و الصغير
يحترم الكبير و الكل يحب الكل لا عنصرية لا استحقار لا طبقات , رغم أن المحبة
لاتصنع و لكنه مجرد حلم.
و كتبت لاحقا قطعة أدبية لطيفة تعبر عن بعض
من تلك الأحلام:
يوما ما
حلمت حلما مجنون
أني أعبر أفلاك الكون
و أكشف سراً مدفون
لحياة أخرى لا يعلمها
سوى القائل كن فيكون
و مرة أخرى
حلمت حلما مجنون
بأني فاتح فلسطين
من بعد الذل و ذا العار
أقود جيوش الأحرار
لينتصروا على التنين
أحفادا باريين
للناصر صلاح الدين
و حينا آخر
حلمت حلماً مجنون
أنني حقا طائر النسرين
أطير فوق حقول الياسمين
أقطع السنين
و أقطف الورود
لمداواة الوريات المجانين
و تبصيرهم في الدنيا و الدين
فهل حققت أحلامي؟!
أم تاهت مناماتي؟!
كان مدرس التعبير معجباً بكتاباتي و كان
دائماً ما يعطني العلامة الكاملة, أما في حصة الفنية فأذكر تلك الحصة التي رسمت
خلالها لوحة فنية أصور فيها صور الحرب الأهلية في الصومال. أذكر أنني رسمت البنك
المركزي الصومالي و أخذت صورته من عملة المائة شلن ثم رسمت دبابة في الشارع و
طائرتين تقصفان البنك و المباني المجاورة.
و لا أنسى مؤتمر عرتة في
جيبوتي عام 2000م كنت أتابعه بشغف كل يوم و كلي أمل بالخروج من المأزق الصومالي.
تابعت انتخاب عبدالقاسم صلاد حسن و كنت فرحاً جداً و أنا أظن أن مشاكل الصومال في
طريقها للحل آخيراً بعد طول عناء. تلك الفرحة أثرت ايجاباً في علاماتي الدراسية في
السنة الأخيرة من الثانوية العامة و حققت علامات كاملة في جميع المواد لأول مرة في
حياتي لكن خاب أملي لاحقاً.
ربما ذهبت بعيداً في سرد أحلامي, لا بأس دعونا نعود إلى رحلتي إلى
هرجيسا عام 2003م لأول مرة بعد 15 سنة من الغياب المتواصل. كنت قد أنهيت للتو سنتي
الأولى في الجامعة وكنت أجمع بعض المبالغ من مكافأتي الدراسية لشراء التذكرة في
الصيف. ذهبت مع عائلة من أقاربنا مرورا بأديس أبابا عاصمة اثيوبيا عبر طيران
الاثيوبية. كان قلبي يدق و أنا في الطائرة لا أعلم كيف سأرى أرضي التي تركتها
هارباً و رائحة الموت و الدمار تنبعث من جنباتها.
تدافعت التساؤلات في رأسي و تداخلت المشاعر و الأحاسيس, و حينما فتحت
أبواب الطائرة أسرع الجميع إلى النزول بينما لم تحملني قدماي التي تثاقلت و قلبي ابتدأ
ينبض بتسارع رهيب. استجمعت قواي و خرجت من
الطائرة و أول ما شد انتباهي كتلة الهواء المنعش الذي داعب وجهي و شعري. كنت أتفحص
الوجوه من حولي و كنت مقرراً أن أسجد لله شكراً على أرض المطار لكنني و لسبب ما
قررت تأجيل تلك السجدة حتى وصلت إلى منزل خالي و سجدت في حوش المنزل و قبلت ترابه.
الأيام الأولى كنت صامتاً فيها أحاول أن أتأقلم على الواقع الجديد, لا
أنكر أنني أنزعجت من بعض الأمور في أيامي الأولى خاصة الطرق السيئة و انزعجت كذلك
من أجل الفقراء الذين كنت أشاهدهم في الأسواق و أؤلئك الذين فقدوا أطرافهم أو
قواهم العقلية في الحرب. لكنني مع الوقت تأقلمت مع بلدي التي طالما أحببتها و قررت
الاندماج في مجتمعها فسجلت في معهد نورالدين لتعلم اللغة الانجليزية. كانت تجربة
رائعة لم أكن بحاجة لتعلم اللغة قدر حاجتي للإختلاط بالناس و عيش بعض التجارب التي
افتقدتها في الغربة.
لا أنسى المعلم عبدالفتاح و أصدقائي أحمد قنتال (الصاروخ) و الاسماعيلان
( مثنى اسماعيل),كنا نجلس على قواعد خشبية لا على الكراسي و الطاولات و كل طالب يحمل دفتره
في حجره. الفصل كان يتكون من مجموعة من الطلاب و الطالبات اللاتي يجلسن في مكان
مخصص لهن بحجابهن. كان أفضل شي في الحصة هو النصف ساعة الأخيرة التي كنا نقف فيها
خارج الفصل و نتحدث باللغة الانجليزية. أعجبني اصرار الشباب على التعلم في كل وقت
تجد طلاباً يحملون دفاترهم يملؤن الشوارع و الطرقات.
كنت محظوظاً بمقابلة الكثير من الأقارب و التعرف عليهم الكثيرون منهم
لم اسمع بهم من قبل أو بالكاد اتذكرهم من ذكريات الطفولة أيام الحرب. و أكثر إنسانة
كنت سعيداً بمقابلتها هي جدتي -أطال الله في عمرها و حفظها لنا- إنني أحبها بشكل
لا يوصف و أحب حديثها و دائما أسألها في التراث الصومالي و القصص القديمة. كان
بقية أهلي لا يفهمون سر ولعي بشراء الأدوات التراثية الصومالية لكن جدتي وحدها
كانت تفهمني و تفرح بي. كنت أجلس معها في فناء المنزل ليلاً و كانت تقول لي أين
ستجد مثل هذا الهواء المنعش في السعودية؟ و أنا أقول لها صدقت يا جدتي, لو كان
بمقدوري لجمعت هذا الهواء في كيس و أخذته معي.
لحظات عديدة أحسست فيها بسعادة بالغة و أنا هناك فرحاً بكل شي, كنت
أفرح بمداعبة عيال خالتي الصغار و تعليمهم بعض الدروس في الحروف العربية. كنت
فرحاً بالأطفال الذين يلعبون في الشوارع و في أحيان كنت أشاركهم في إظهار بعض
مهارات الكرة. كانوا يذكرونني بطيف من طفولتي الضائعة في هرجيسا, و كنت أتسائل ماذا
لو لم تقم تلك الحرب اللعينة؟ يا ترى كيف كنت سأترعرع و أنمو في هرجيسا ؟
حتى الصلاة في مساجدها كانت أكثر خشوعاً و كنت تشعر بقربهم من الله و
دعائهم الدائم عقب الصلوات.كنت أشعر بالسعادة و أنا راكب في الباص الذي كنت أعتبره
منتدى عام للحوار , الجميع يتحدث و يدلي بآراءه حول كل شي. كنت أركب الباص في بعض الأحيان
لأجل البحث عن هذه الحوارات لا غير. كانت تدهشني ابتساماتهم و ضحكاتهم رغم الظروف
الصعبة كل التفاصيل كانت جميلة في نظري و كنت و كأنني أعيش في حلم جميل.
إلى أن جاء يوم الوداع بعد المكوث
شهرين في هرجيسا, لحظة الوداع كانت صعبة جداً و لم أكن أتخيل أن تكون بهذه
الصعوبة. ذهبت معي جدتي و خالتي و بنت خالتي الصغيرة و مجموعة من الأهل في باص خاص
إلى المطار. أحسست بنفس ذلك الشعور بالرغبة في الصمت و التأمل في اللحظات الأخيرة
حيث تسمرت قدماي على أرض المطار و أنا انتظر الرحلة و حولي الأهل و الأحباب. كنت
كمن يريد أن يوقف الزمن ليعيش مدة أطول في هذه الأرض التي رضعت حبها منذ الصغر.
و حينما حان وقت المغادرة سلمت على جدتي و خالتي و الأقارب و أما بنت
خالتي الصغيرة فتمسكت في يدي و هي تبكي و تتوسل إلى أن أبقى معهم فقد تعلقوا بي و
تعلقت بهم. بكاءها أصابني في مقتل و أنا الذي كنت أحاول التماسك و التخفي خلف
ابتسامة باهتة لا روح فيها. يا ترى ماذا كان سيفعل ابن خالي الصغير أكرم الذي
تركناه يغط في نوم عميق بعد أن وعدته أمه أن يذهب معنا للمطار لوداعي.
لحسن حظي تماسكت و ودعتهم
بثبات و أنا أختلس النظر إليهم متجهاً إلى الطائرة و أنا واقف في طابور التفتيش كانت
كتل الهواء المنعش تضرب وجهي وكأنها صفعات باردة. وقعت مني التذكرة على أرض مدرج
المطار و كلما هممت بالتقاطها ذهبت بعيداً حتى اضطررت للخروج من الصف في منظر قد
يبدو مضحكاً في يوم آخر غير هذا اليوم. أمسكت بالتذكرة بعد عدة محاولات و كأن هواء
هرجيسا رمى التذاكر من يدي عن قصد حتى لا أغادرها كنوع من الاحتجاج السلمي, هنا لم
أتمالك نفسي و ذرفت بعض الدموع الساخنة بالرغم مني. مسحت تلك الدموع قبل أن أعود إلى
الصف في صمت مطبق هنا أحسست مرة أخرى بهواء هرجيسا على خدي لكن هذه المرة كان كاليد
الحانية التي تمسح دموعي و تواسيني على الفراق.
جلست في مقعدي في الطائرة و لحسن الحظ كان المقعد المجاور لي فارغاً
فجلست على النافذة أتابع بصمت أرض هرجيسا و العبرات تخنقني و نحن نحلق مبتعدين في
الجو, أحسست بحزن كبير و بأنني تركت بضعاً من قلبي أمانة في هذه الأرض الطاهرة
أستردته كلما زرتها. فلا يكتمل قلبي إلا حينما أكون في هرجيسا التي ولدت فيها.
أتيت إلى هرجيسا مرات أخرى كثيرة بعد تلك المرة لكنها لم تكن عاطفية مثل المرة
الأولى و لم أعد أذرف تلك الدموع فلا سحر كسحر البدايات و لا دموع كدموع الفراق الأول.
و في الختام أهدي مدينتي العزيزة هرجيسا أنشودة موطني موطني :
اتمنى في يوم ما ان ارى بلدي و قد طال حنيني اليها `دعوة منكم في ظهر الغيب ربما تيسر لي ما احتاجه`
ردحذف