الأربعاء، 11 يناير 2017

طريق المحيط العظيم والشقراء الفنلندية



في عطلة نهاية الاسبوع ذهبت في رحلة مع باص سياحي عبر طريق المحيط العظيم (The Great Ocean Road) إلى الغرب من مدينة ملبورن باتجاه المعلم الشهير الرسل الإثني عشر (The Twelve Apostles). وهي عبارة عن معالم صخرية شامخة ومتقاربة على شاطئ المحيط بقي منها ثمانية مع انهيار الصخرة التاسعة عام 2005م على وقع ضربات أمواج المحيط عبر آلاف السنين.

كان الذهاب لتلك الرحلة دائما ضمن المخطط ولكن لم أكن متحمساً كثيراً هذه المرة لولا أنني وجدت عرضاً مخفضاً للرحلة. كان موعد التجمع في التاسعة صباح الأحد عند مقهى خارج مكتبة ولاية فكتوريا، حينما وصلت قبل عشرة دقائق من الموعد كان هناك بعض السياح ينتظرون الباص وعمال المقهى منهمكين في الاستعداد لبدء عملهم ووضع الكراسي والطاولات خارج المقهى الذي يفتح في التاسعة صباحاً.

وقفت في انتظار طلب القهوة على الساعة التاسعة ولكن الباص وصل وبدأ السياح في ركوب الباص، فاضطررت إلى اللحاق بالباص وترك القهوة بحسرة رغم أنني لست من مدمني القهوة. ركاب الباص كانوا من جنسيات متعددة كما بدا عليهم وعرفت لاحقاً بعضهم من ألمانيا وكوريا والصين وكولمبيا والعراق وفنلندا  وكنت أنا الصومالي والأسمر الوحيد في هذا الباص.

وصلت متأخراً ولم يبقى أمامي سوى مقعد بجوار سيدة شقراء، كان لزاماً أن نتحدث حتى نمضي مسافة الطريق التي قد تصل لثلاثة ساعات للوصول إلى وجهتنا. في الطريق مررنا على الغابات والأشجار الطويلة وفي أحيان السهول التي ترعى فيها البقر والغنم والخيل وكنا نشاهد على بعد قطعان من الكنغر وهم يتقافزون وأنا الذي اعتدت مشاهدة صحراء الدهناء وقطعان الإبل المتناثرة... شاهدت لوحات التحذير من عبور الكنغر للطريق بدلاً من الإبل.

وكلما اقتربنا من المحيط أصبح الطريق ملتوياً وصعباً وحينما وصلنا للمحيط كنا مأخوذين بجماله والتقاءه بالجبال والغابات في هذا الطريق الممتد على مد البصر. تعرفت على السيدة الفلندية وكان اسمها "جازمن" عرفتها بنفسي وقلت لها: اسمي عواله ومعناه سعيد الحظ وأتمنى أن يكون لي من اسمي نصيب، بالمناسبة اسمك بالعربي ينطق ياسمين. فقالت: في لغتنا ينطق اسمي "ياسمينا" واسم الاختصار "ياسو" ولكن أقول "جازمن" لأن هذا هو المتعارف عليه لدى متحدثي الانجليزية. قلت لها: هل تعلمين أن الياسمين عبارة عن زهرة، قالت: نعم، والدي أخذ فكرة تسميتي من زهرة ياسمين جميلة كانت تنبت في حديقة منزلنا في ريف هلسنكي وهذا الاسم غير منتشر كثيراً في بلادنا، قلت لها: أيضاً اسمي نادر في الصومال هذه الأيام.

كما عرفت أن ياسمينا أتت لاستراليا منذ أربعة أشهر تقريباً بتأشيرة عطلة العمل وهي فيزا تعطى غالبا للشباب الأوربي لقضاء سنة في استراليا يسمح لهم فيها بالعمل وبالإمكان تمديد الفيزا لسنة أخرى إذا عملوا لدى أحد المزارع فترة من الزمن. سألتني لماذا قدمت إلى هذا البلد؟ قلت لها لقد هاجرت لهذه البلاد بحثاً عن الفرص ومستقبل أفضل وأيضاً من أجل الحصول على جواز يسمح لي بالسفر حول العالم.

سألتها إذا قدر لك المكوث هنا عدة سنوات هل ستطالبين بالحصول على جواز استرالي؟ قالت: لا فجوازي الفنلندي يسمح لي بالسفر لأي دولة بالعالم. ماذا عن الجواز الصومالي؟ قلت لها: نحن لا نستطيع السفر مثلكم لأي مكان بالعالم بسبب أوضاع بلادنا وحتى أن استراليا رفضت منحي فيزا سياحية قبل ثلاثة سنوات بحجة عدم ضمانها عودتي لحياتي في السعودية التي إقامتها مؤقتة أو للصومال الغير مستقر ولكنها الآن قبلت بي كمهاجر بعد تقييم شهاداتي! قالت: ليس عدلاً أن لا تستطيعوا السفر مثلنا. قلت لها: هذه هي الدنيا..تخيلي الطيور تسافر بجوازات وتمر على سفارات تنقل الطيور بين الدول والقارات؟! ليتنا مثل الطيور.

سألتني إن كنت واجهت شيئاً من العنصرية في استراليا؟ فقد سمعت أن هناك شيئاً من العنصرية..قلت لها: شخصياً لم أواجه أية موقف عنصري خلال تواجدي في هذه البلاد، بل على العكس الناس هنا مهذبون جداً في الغالب. لكن هذا لا يمنع أن هناك من يضمر شيئاً في قلبه ومايضيرني ذلك؟! أنا أؤمن بقانون الجذب وأن ما تفكر فيه سيحصل لك. لذلك لا أتعب نفسي بالتفكير في هذا الأمر وأسعى لأن أكون شخصاً له كامل الحقوق والاحترام تماماً كالآخرين.

كان يبدو أنها فتاة مثقفة وواعية وأخذت تسألني أسئلة كثيرة عن الصومال والسعودية بعدما أخبرتها أنني قضيت معظم عمري هناك وأنا بدوري سألتها بأريحية عن فنلندا وعنها. أخبرتها بقصتي وكيف خرجت من الحرب الأهلية الصومالية وانتقلت للسعودية، فقلت لها: أنت أول شخص هنا أحكي له قصة هذه الحرب ولا يسألني : هل مازلت تحلم بالكوابيس؟. حكيت لها قصة دخولي أول يوم للمدرسة لابساً الثوب الأبيض وسؤال أبي لي بعد أول يوم: هل هناك ما ينقصك يا ولدي؟ فقلت له: شكراً يا والدي ولكن ينقصني شي واحد فقط ألا وهو القناع الأبيض الذي يلبسه الأطفال الآخرون. كنت مقتنعا أن الإنسان بطبيعته أسود وأن بقية الأطفال يلبسون أقنعة بيضاء تماماً كالزي المدرسي!. ضحكت من هذه القصة وضحكنا على سذاجة الطفولة.

قالت لي أن الحدود الأفريقية ليست طبيعية وهي تفصل بين شعوب وقبائل واحدة، فأخبرتها عن مؤتمر برلين 1884م وكيف تم ترسيم الحدود الإفريقية وتقاسم الكعكة ووضحت لها الحدود الصومالية وصراعها لاستعادة أراضيها من اثيوبيا وكينيا مما تسبب في حرب 1977م والنتائج التي نراها إلى اليوم.

سألتني عن حال الصومال الآن وحركة الشباب الاسلامي؟ فأخبرتها بأن الصومال مشروع يستفيد منه الجميع إلا الصوماليون. الأمم المتحدة ودول الجوار والهيئات كلها تحصد الأموال بالمتاجرة بمعاناة هذا الشعب ولو أرادوا القضاء على الشباب لساهموا في بناء جيش صومالي قوي يقوم بالمهمة، لكن لا أحد يريد ذلك ...الجميع يريد أن يبقى الحال كما هو لتستمر المصالح والفوائد.

سألتني إن كان بالإمكان أن تذهب هناك للسياحة والزيارة؟ فكرت قليلاً وقلت لها: هناك مناطق آمنة وجميلة ولكن ستفتقدين لأمور كثيرة وستلاحظين ضعف البنية التحتية للطرق مثلاً مما قد يشكل عائقاً. أيضاً بما أنك أوربية ستلزمك الحكومة باصطحاب حارسين شخصيين لحمايتك حتى تدفعي لهم راتباً، رغم أنني أظن أنك لست بحاجة لحراس. أخرجت الجوال وأريتها بعض الصور التي التقطها لكهوف لاس قيل الشهيرة وشرحت لها الرسومات التي رسمت منذ آلالف السنين.

قلت لها: إذا كنت تريدين الذهاب لإفريقيا فهناك دول مثل جنوب إفريقيا وكينيا وتنزانيا لديها مقومات سياحية ممتازة خصوصاً من ناحية الحياة البرية.قالت لديها صديقة فنلندية ذهبت للدراسة في تنزانيا وأرتني صورها وهي في زنجبار الجميلة. كما حدثتها عن أن دول الجوار ومنها كينيا استحوذت على عديد من الحيوانات البرية الصومالية وطرحت مثالاً قصت ذلك الفيل الصومالي الذي هاجر من جنوب الصومال مع قطيعه إلى كينيا بداية التسعينيات وهو صغير.

فقد تم ربط شريحة معدنية بالفيل وتركه قبل عام يذهب حيث شاء، فعاد أدراجه وتخطى الحدود الصومالية عائداً لأرضه وحينما لم يجد فيلة أخرى عاد أدراجه لكينيا. قلت لها ساخراً: هذا كحال المهاجرين الصوماليين في أنحاء العالم، قد يكون الكبار ومن هاجر بقيت لديهم بعض الذكريات التي يحنون بها إلى الصومال ولكن الجيل الجديد مقطوع الصلة بأرضه وسيأتي يوم لا يبقى ما يربطهم بهذه الأرض.

سألتني إن كنت شاهدت حيوانات أفريقية عن قرب، قلت لها نعم شاهدت الأسد وأخذت صورة معه وهو خارج القفص ثم حكيت كيف أن لبوة الأسد بعد عام من تلك الصورة قتلت فتاة في الوادي وهرب عنها حبيبها لتواجه مصيرها وحيدة أمام اللبوة الجائعة. حدثتها عن النعام والإبل والغزلان والسلاحف وأريتها صورة لغزال الغرنوق ذو الرقبة الطويلة والذي يتواجد حصريا في المناطق الصومالية وأعجبت بهذا النوع من الغزلان. أما هي أخبرتني أن الأرانب منتشرة عندهم حتى داخل المدن وفي الغابات هناك الضباء والدببة. سألتها إن كان الدب يأكل العسل كما نشاهد في أفلام الكرتون؟ قالت: ربما ومن يكره العسل!

سألتها عن فنلندا  ونظامها التعليمي الذي يعتبر الأول عالمياً، هل صحيح أنكم لا تأخذون واجبات منزلية؟ قلت في زماني كنا نأخذ القليل من الواجبات ولكن الآن يبدو أن الأمور أصبحت أكثر أريحية. أخبرتها بأن مواطني العالم الثالث يحسدون الدول الاسكندنافية على سجونها المريحة فالسجن عندنا عقاب وحرمان بينما عندكم محاولة لبناء الفرد من جديد ودمجه مع المجتمع.

 قلت لها: هل صحيح أن هناك عداوة بينكم وبين السويدين؟! قالت: ليست عدواة ولكنها مجرد منافسة شريفة بين جارين لدودين. أخبرتها بأن لدي عمة في السويد وأخرى في هولندا وخالا في فرنسا وعما في بريطانيا وأنني قد أضم فنلندا  لجولتي الأوربية في الستقبل ولكن في فصل الصيف فلا أحتمل برودة شتاءكم القارص.

حينها أخرجت من جوالها فيديو قصير لإحدى صديقاتها في فنلندا وقد حفرت حفرة في الثلج والصقيع حتى بدا الماء تحته ثم دخلت في الحفرة لتسبح وهي تلبس طاقية الكريسمس الحمراء! أما أطفال صديقتها التوأم فكان أن بنوا لهم كومة من الثلج ثم دخلوا في تلك الكومة حتى بدا أنهم متلحفين بالثلج، إنهم قوم يلعبون بالثلج كما نلعب بالرمال على الشاطئ!.

لاحظت على ساعدها وشم لعين فسألتها ماهذه الرسمة تبدو مألوفة لي؟! قالت: إنها عين حورس الآلهة المصرية القديمة. هنا انطلقت وأخذت أتحدث عن الهانقول "العصى الصومالية" وأخبرتها أنها نفس العصى التي يحملها حورس وأريتها صوراً لحورس وهو يحمل العصى وصور لعصاتي العزيزة وهي على نفس الشاكلة. قالت وضعت هذا الوشم لأن والدها كان يضع هذا الوشم وهو متوفي الآن وهي للحماية من العين.

وفي هذه الأثناء توقفنا في مدينة صغيرة اسمها "واي ريفر" كان توقفاً لمدة نصف ساعة، شربت القهوة هناك ومن ثم اتجهت لتجمع سياح تحت مجموعة من الاشجار واتضح لاحقاً أنهم يطعمون البغبغاء الملكي الاسترالي. كان الحضور عددهم كبير مقارنة بالطيور، وكان الكل يمد يده للبغبغاء الذي يفكر ومن ثم يختار من يشاء أن يأخذ منه الطعام. أفلحت بعد عدة محاولات بنيل انتباه أحد البغبغاوات الجميلة فأخذ يأكل من يدي وكنت سعيداً بذلك.

الجميع حولي من أطفال وكبار يمدون يدهم حولي لينتقل لهم البغبغاء، وأنا أيضا حاولت أن أقرب يدي لباقي الحضور خاصة لياسمينا التي كان واضح عليها بعض التوتر ولكن البغبغاء لم يشأ مغادرة يدي حتى بعد أن سكبت الحبوب من يدي إلى يد أحد السياح اللاتينين. قلت للبغبغاء: اذهب للآخرين فلم يبقى معي أكل ويدي ليست شكولاتة! ضحك الناس من حولي وقالوا: يبدوا أنه يحبك أو يحب مذاق جلدك! طار البغبغاء بعد مدة منتقلاً للآخرين، يبدو وكأنه كان يشعر بالطمأنينة في يدي. لحسن الحظ شاهدنا على قمة نفس الشجرة حيوان الكوالا، كان يبدو وكأنه يغط في نوم عميق فوق الشجرة. كان أول كوالا أشاهده على الطبيعة وكانت ياسمينا سعيدة جداً للغاية وقالت: اليوم تحقق حلمي بمشاهدة الكوالا ..الآن أريد مشاهدة ثعبان!

عدنا للباص وأكملنا الطريق باتجاه معلم الرسل الإثني عشر.عدنا لإكمال حديثنا وسألت ياسمينا عن دراستها وقالت أنها تقريبا أكملت بكالوريس في دراسات التطوير وبقي لها مشروع التخرج، ولكنها قررت أخذ سنة إجازة وعمل إلى استراليا والسفر حول العالم. سألتها عن طموحها في المستقبل وماذا تريد أن تعمل ؟ قالت أريد أن أعمل في أحد سفارات بلدنا في أمريكا الجنوبية وآخذ أمي معي هناك فهي الآن وحيدة بعد موت أبي رغم أن صديقها يعيش معها ولكن أشعر بوحدتها واشتياقها لي. أخبرتها بأن أصدقائي كانوا يسمونني السفير لنقلي الدائم للتراث الصومالي ولبس اللباس التقليدي في المناسبات وأنني أيضاً كنت سأرحب لو عملت سفيراً لوطني في أحد الدول.

قلت لها ماهي اللغات التي تجيدينها؟ قالت الفنلندية والانجليزية وأدرس الاسبانية والبرتغالية. قالت أنها ذهبت إلى البرازيل مع صديقاتها لمدة شهر وكان الحديث بالبرتغالية صعباً عليها رغم أنها تعرف قواعد اللغة وتستطيع الكتابة جيداً. قالت في البرازيل لا يتكلم الكثيرون الإنجليزية وكان يجب أن أمارس البرتغالية وكنت أشعر بهم أنهم يضحكون على لهجتي. فقلت لها ساخراً كان من الممكن أن تدعي أنك خرساء وتكتبي ماتريدين! كان يبدو أنها تجيد الإسبانية بشكل أكبر حيث تعلمت اللغة من معلميها الكوبي والاسباني في هلنسكي.

أخبرتني أنها كانت تمارس رياضة الكيك بوكسينغ في فنلندا ولكنها لم تحضر عدتها معها وأنها كسبت الكثير من الوزن هنا. كل ما كنت أعرفه أنه كان علي أن أرفع من معنوياتها وأكون مهذباً فقلت لها: ولكنك مازلت جميلة، هل تعلمين أنه في بلدان أفريقية يفضلون المرأة السمينة على النحيلة وأنه في بلاد مثل موريتانيا يرسلون البنات النحيلات في الصيف إلى مخيم للتسمين. لأنه حسب اعتقادهم أن النحيلة لن يتزوجها أحد عكس السمينة! قالت مازحة: ربما يجب علي أن أنتقل لهذه البلاد!

بمناسبة الزواج هل بإمكانك التزوج بفتاة من ثقافة مختلفة كليا؟ قلت لها نعم الإسلام يسمح لنا بالزواج من الكتابيات من النصارى واليهود وهناك حالات متعددة رأيتها وسمعت عنها لصوماليين تزوجوا من أعراق وأديان مختلفة، رغم أن الأمر ليس بهذه السهولة. قالت: كنت أعتقد أن هذا غير ممكن...أنا وصديقاتي نمزح في بعض الأحيان بأننا نريد الزواج من أمير عربي، ولكن هل تظن بأنه سيفرض علي أن ألبس مثلهم؟! قلت لها: ربما لو كنت تعيشين مع الأمير في الخارج فلن يهتم لذلك ولكن في الخليج خاصة لو رجعت إلى السعودية فعليك الإلتزام بالزي النسائي هناك. وعلى كل لا أنصحك بالزواج من أمير فهو سيعتبرك من ضمن أشيائه التي سيمل منا بعد أشهر ليتزوج بأخرى، ربما تحصلين على الأموال ولكن لن تحصلي معه على اهتمام نفسي وعاطفي.


سألتني عن تعدد الزواج وقلت لها الأمر كان أسهل في الأجيال السابقة فأبو جدي مثلاً تزوج أربعة وجدي اثنتان وأبي واحدة وأنا لاشئ للآن، يبدو أن هناك معادلة رياضية ما في الأمر وأعتقد أن واحدة تكفي وزيادة في مثل هذا الزمن. فمثلاً سابقاً كان النموذج الذي تربينا عليه أن يكون الأب مسؤلاً وحده عن الإنفاق والدخل وتتفرغ الزوجة لتربية الأطفال. أما الآن فالنموذج الغربي مثلا يتطلب من الزوجين العمل والمشاركة في المصروف والإنفاق. قالت: كانت هناك ضجة وتململ من الفلنديين ضد النساء الصوماليات لأنهن يجلسن في البيوت ولا يعملن كبقية النساء الفلندييات بينما يأخذون إعانات من الحكومة! قلت لها: المرأة عندنا تنجب في المعدل سبعة وأعرف من ينجب اثنا عشر! قالت مستغربة: كيف تستطيع المرأة ولادة كل هؤلاء والاهتمام بهم؟! فنحن ننجب واحدا أو اثنان وربما ثلاثة كحد أقصى.


قلت لها: النساء عندنا يتزوجون باكراً ويظلون ينجبون لعشرين سنة، ربما لم نفكر مثلكم بتخطيط مستقبل الأطفال وتركنا رزقهم للأقدار. أخبريني هل لديك إخوة؟ قالت: أنا وحيدة أبواي وليس لدي إخوة؟ قلت لها: نحن سبعة بين شباب وبنات ومع ذلك نعتبر عائلة متوسطة، ربما بالنسبة لي أكتفي بخمسة وربما ثلاثة أطفال! قالت: ربما سأنجب طفلاً واحدا أو اثنين فقط لأستشعر معنى أن يكون لك أخ أو أخت. قلت لها: دائما أسمع أن الطفل الوحيد مدلل؟ هل كان هذا حالك؟ قالت: لا أعتقد ذلك ، على الرغم من أن أمي لا ترفض لي طلباً، وإن رفضت توافق بعد إلحاح عكس أبي الذي كان لايمكن إقناعه في حال رفضه لأمر ما.

سألتني كيف يتم الزواج في الصومال والسعودية؟ قلت لها: الحكاية يا سيدتي أن أغلب الزواجات الآن تتم بترتيب من العائلات فهي صفقة بين عائلتين وحكيت لها عن النظرة الشرعية ووصفت لها ذهاب العريس لرؤية عروسة المستقبل التي تحضر كأس شاي أو عصير لتجلس خجلة أمامه عدة دقائق بحضور الأهل قبل أن تنصرف وبعد ذلك يُسأل العريس المسكين: هل أعجبتك الفتاة؟ فيقول: نعم ويتم الزواج، وبعدها قد يتوفقون وقد تظهر مشاكل من انعدام للتفاهم فيكون الثمن فادحاً بالطلاق.

أما في الصومال فكان سابقاً شائعاً أن يقع شاب في حب فتاة ثم إذا لم يوافق أهلها يتفق معها على الهروب بصحبة أحد أقاربه كشاهد أن شيئاً لم يحصل بينهما. فيتم الزواج تحت بند فرض الأمر الواقع ،رغم أنني لم أعد أسمع بمثل هذه القصص الآن. قالت: هذا أمر رومانسي! نحن في فنلندا  لا أحد يهتم بك تزوجت أم لا! وربما ليس أمراً سيئاً أن يساعدك الأهل في البحث عن عريس. فمع الحياة المعاصرة أصبحنا مترددين كثيراً مع كثير الخيارات أمامنا ونحن دائماً نظن أننا سنجد شخصاً أفضل في المستقبل. أنا مثلاً انفصلت عن صديقي ومازلنا على تواصل كأصدقاء فقط وكنا نظن أننا سنسافر للعالم سوية ولكن اختلف مسارنا في الحياة.رثم أردفت: يعجبني في الصومالين ترابطهم وتواصلهم فيما بينهم. قلت لها: ربما بعض المساعدة أمرجيد ولكن ليس دائماً، أرأيت الفرق بيننا نحن نحصل على مساعدات أكثر مما ينبغي وأنتم لا أحد يكترث لحالكم.

قلت لها: هل تعلمين أن السعودية هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تسمح بقيادة المرأة للسيارة. قالت: رغم أني لا أقود سيارة فالمواصلات العامة في هلنسكي لا تتأخر دقيقة واحدة، ولكني كنت سأكون غاضبة جداً لو منعت من هذا الحق فما السبب لهذا المنع؟ قلت لها: يقولون للنساء أنك أميرة ولا يصح للأميرة أن تقود بنفسها ولكن يجب خدمتها ويتم إيصالها وفتح الباب لها! قالت: إذا كان الأمر كذلك ربما كنت سأرضى. ضحكت وقلت لها: هي مجرد حجة ولكنه أمر يخص ثقافة وتقاليد البلد التي يصعب أن تتبدل بسرعة. لكن الواقع أن النساء يقعن في الكثير من الحرج لإنعدام المواصلات العامة فيضطرن لركوب التكاسي وربما دفع راتب سائق خاص.

سألتني عن اللباس والنقاب فأخبرتها اختلاف الحجاب بين الدول الاسلامية ففي السعودية مثلاً يغطون كامل الجسم مع الوجه بينما في دول اسلامية أخرى بالإمكان إظهار الوجه واليدين. ومع هذا النقاب لم يقف عائقاً أمام المغازلين الذي يتغزلون بجمال العيون. قالت: عجيب وكيف يعرفون جمال المرأة من عينها؟ قلت لها: هذا اختصاص خليجي وعينيك الخضراوتين الواسعتين كانت ستجلب الكثير من المشاكل. أخبرتها عن طرق المغازلة قديماً أيام الطيبين عندما كانوا يدورون في الأسواق ويرمون قطع لأوراق فيها أرقام هواتفهم على أمل أن يجد من يتجاوب معهم. ضحكت من هذه الحركة كثيراً، وقلت لها: الآن مع التقدم التكنلوجي لم تعد هناك حاجة لرمي الأوراق كالصياد ومصادفة الإحراجات.

قالت: وماذا سيحدث لو قررت أن أخلع حجابي في السعودية إن أحسست بالحر أو ببساطة اخترت عدم ارتداءه؟ قلت لها: هذا أمر غير مستحب بالمرة! دعني أخذك في سيناريو سريع لما كان سيحدث: أولاً كان الجميع سينظرون إليك باستغراب وتلاحقك السيارات ويجتمع حولك بعض من الشباب الصائعين وربما تتطور الأمور لمضايقات لفظية وجسدية. ثم تصل الشرطة وذلك لحمايتك أولاً ثم يأخذونك إلى مركز الشرطة ليتحدثوا معك حديثاً خاصاً قبل أن يتصلوا بالسفارة الفلندية ويطلب منهم السيطرة عليك أو طلب مغادرتك للبلاد. وفوق كل هذا كنت ستصبحين مشهورة على التويتر ويخصص لك هاشتاق عالمي حتى يصل الخبر إلى قومك وأمك في فنلندا وتصبح فضيحتك بجلاجل.

في هذه الأثناء توقفنا على منطقة شاطئية اسمها "أبولو باي" لمدة نصف ساعة لتناول وجبة الغداء. نزل الجميع وأخذنا نبحث عن مطعم مناسب، أنا وياسمينا دخلنا إلى مطعم وأخبرتني أنها نباتية لا تأكل اللحوم. قررنا أن نطلب همبرجر نباتي ومن ثم نأخذه لأكله على الشاطئ. دفع كل منا ثمن وجبته فلا يوجد هنا نظام الكرم الحاتمي كما كنا نفعل في بلادنا. كان شاطئاً جميلاً وكان نسيم البحر بارداً في ظل هذا اليوم المشمس. الكثيرون كانوا يسبحون على الشاطئ أو يمارسون رياضة ركوب أمواج البحر وهناك من يستلقي على الشاطئ بحثاً عن أشعة الشمس واللون الغامق. قالت: في بلادنا يبدوالناس بيضاً كالأشباح ومن الجميل أن تحصل على شئ من اللون تحت هذه الشمس.

كما أخبرتني أن السباحة من هواياتها واعترفت لها أنني لا أجيد السباحة وإن كان بالإمكان أن تشرح لي تكنيك السباحة! فكرت قليلاً وقالت لا أعلم كيف أشرح لك، إنها من الأمور التي تفعلها وحسب تماماً مثل ركوب الدراجة الهوائية! قلت لها أزيدك من الشعر بيت ..حتى ركوب الدراجة لا أجيدها فضحكنا وقلت لها: حينما تتعلم أمراً في الصغر فسيكون سهلاً عكس التعلم في الكبر. قالت: ربما يأتي يوم وأعلمك كيفية السباحة...قلت : ربما.

وسألتني هل مارست القفز من الطائرة؟ قلت لها لا ولكنني فكرت بالتجربة وكذلك فكرت بركوب المنطاد الهوائي..في الحقيقة إنني فكرت بأمور كثيرة ولم أنفذ الكثير منها للآن ومازلت أريد أن أتعلم الكثير وأتغلب على طبيعة الحذر والتخوف من التجارب. فإذا فكرنا بكل العقبات وكل الأمور السيئة التي من الممكن أن تحصل مثل هجوم سمك القرش في الشواطئ وقناديل البحر السامة فلم يكن أحد ليسبح أو يستمتع بوقته الحاضر.

طلبت مني أن أخبرها عن الأكل الصومالي، فلم أجد الكثير من الخيارات. أخبرتها عن اللحوح وقلت لها: أنه مثل البانكيك بالسمن والسكر ونحب أكل الكثير من اللحم والرز والموز الذي نأكله مع الرز، قالت لماذا؟ قلت ربما لأن لدينا الكثير من الموز الذي لم نعد نعرف ماذا نفعل به. حكيت لها عن المطبخ اليمني الدسم والشامي والتركي. فقالت أنها سبق وزارت تركيا وأعجبت بالبقلاوة، فهل لديكم حلويات صومالية؟ فكرت قليلاً وحاولت شرح المهلبية فلم أفلح ثم تذكرت الحلوى وأريتها صورة للحلوى العمانية وقلت أنها مشابه لها.

تحدثنا عن كونها نباتية وهي قالت لماذا لا تأكلون لحم الخنزير؟ قلت لها: ببساطة إن كان بالإمكان أن أجد الكثير من لحوم الغنم والماعز والبقر والإبل وأيضا الدجاج لماذا أبحث عن لحم محرم علي. لكن على الرغم من هذا أستطيع أكل لحم الخنزير لو أوشكت على الهلاك ولم يكن هناك طعام آخر. قالت: لم أكن أعلم أن ذلك ممكن! قلت لها: إن كنت توشكين على الهلاك وليس أمامك سوى دجاج أو لحم هل كنت ستأكلين؟ قالت: أظن أنني كنت سأفعل رغم معارضتي للفكرة.

سألتني عن القات؟ قالت سمعت أن الرجال في اليمن يأكلون القات وكذلك في الصومال. قلت لها: هذه نبتة ابتلينا بها ونخسر فيها الكثير من الأموال، في اليمن على الأقل يزرعون قاتهم بينما نستورده من دول الجوار. للقات تأثير مثل المثأمفاتمين ولم أجربه للآن رغم العروض التي وصلتني كثيراً، لماذا تسألين عنه، هل تريدين تجريبه؟ قالت: نعم أريد أن أجربه. قلت لها: لأنصحك بذلك.

صمتنا قليلاً لنستمتع بهواء الشاطئ وطيور النورس التي حامت حولنا تبحث عن بقايا طعام، فبادرتني بالسؤال: هل يوجد في الصومال شواطئ جميلة كهذه؟ قلت لها: سمعت عن وجود شواطئ جميلة في الصومال ولكنني شخصياً لم أذهب لأحدها ولكن حتما لدينا شواطئ جميلة. سألتها بدوري عن ظاهرة كونية ترى في بلاد شمال الشمال اسمها "الأضواء الشمالية" وهي تحولات في لون السماء ليلاً إلى ألوان خضراء في الغالب تحت تأثير مغناطيسية القطب الشمالي. أخرجت من جوالها صورة وقالت: رأيتها مرة واحدة ومن بلكونة منزلي في هلنسكي!. قلت لها: لابد أنها تجربة رائعة؟ قالت: الصورة لا تفي حقها ففي الواقع هي ظاهرة أجمل بكثير من أن تنقلها الصور.

عدنا إلى الباص لإكمال الطريق تجاه معلم الرسل الإثني عشر، وفي الطريق رأينا بعض الأشجار المحروقة على امتداد الشاطئ. فقال لنا قائد الرحلة: إن هذه المنطقة اندلعت فيها الحرائق من سنوات حاصدة الكثير من الأرواح والممتلكات وأن الغازات المنبعثة عن الحرائق هي أكثر ما يقتل الناس. ثم أردف ساخراً: كل شئ في استراليا يحاول قتلك حتى الأشجار! قلت لياسمينا: جميل أن يكون لأحدنا منزل في هذه المناطق وبما أن البحر غير آمن من وصول الغازات أو من وجود أسماك القرش، ربما من الحكمة شراء قارب للهروب في حال اندلاع حرائق مشابهة.

وصلنا إلى منطقة الرسل الاثني عشر وكان هناك الكثير من السياح من جميع الجنسيات ومركز معلومات بلغات كثيرة من العربي والفارسي والأوردو والماندرين وفي المدخل علامة تحذير من وجود ثعابين سامة في المنطقة وتعليمات بالمشي في المنطقة المحددة للمشاة. قلت لياسمينا: ربما يتحقق حلمك برؤية ثعبان سام! كانت تنظر يمينا وشمالاً باحثة عن ثعبان، ثم قالت: لن نجده هنا لأن الثعابين تهرب من ازعاج البشر وتجمعاتهم. وصلنا إلى المكان المنتظر وكان المنظر خلاباً ونحن نشاهد من علٍ منظر تلك الصخور العملاقة وهي تقف على بُعد أمتار من الشاطئ في مواجهة أمواج المحيط العاتية.

كان هناك رحلات للهليكوبتر لمن أراد التجول حول المنطقة من الأعلى ولكن بعد دفع مبلغ معين. قالت ياسمينا أنها سبق وركبت هليكوبتر من قبل، وأضفت بدوري: ربما هي من الأمور التي ينبغي أن أفعلها يوماً ما. التقطنا صوراً تذكارية للمنظر الطبيعي وفي طريق العودة للباص شاهدنا مجموعة من السياح متجمعين ويصورن حيواناً ما..للوهلة الأولى ظننته كنغر ولكن اتضح أنه حيوان يسمى ولبي وهو من فصيلة مشابهة ويعتبر أصغر من الكنغر. عدنا للباص ثم انتقلنا لمنطقة أخرى بالجاور فيها شاطئ خلاب يقع خلف مضيق بين جبلين. ترى الأمواج وهي تتلاطم على الجبلين وتدخل من المضيق حتى يصل امتداد الموج للشاطئ.

عدنا أدراجنا بعدما أمضينا ساعة أخرى في هذا الشاطئ، وفي طريق العودة لملبورن حدثتني ياسمينا عن بعض سفراتها حول العالم فقد سافرت للهند ومصر وتركيا والبرازيل والعديد من الدول الأوربية. قالت في الهند كانت تشعر وكأنها من المشاهير، فقد سافرت مع اثنتين من صديقاتها وكان الناس يتجمعون حولهم كباراً وصغاراً لأخذ الصور وربما في بعض الأحيان يسترق بعض الرجال صوراً لهن وهذا أمر مزعج جداً. قلت لها: إن معدلات الإغتصاب عالية في الهند ولايتم الإبلاغ عن نسبة كبيرة منها ،فهل وجدتم مضايقة جسدية؟

قالت: الأمر لم يصل لهذا الحد وإلا كنت اضطررت لإستخدام خبراتي في الكيك بوسينغ. وأردفت بأنه حتى في بلادها لا يتم الإبلاغ عن حالات كثيرة من الاغتصاب كباقي دول العالم وأنها شخصياً تم اللحاق بها مرتين قبل أن تهدد في المرة الأولى أحدهم بالإتصال بأصدقائها الذين كانوا في حفلة قريبة لتأديبه وفي الثانية دخلت إلى سوبرماركت وطلبت من البنات اللاتي يحاسبون على الكاشير أن يساعدوها ويخرجوها من الباب الخلفي حتى تهرب من ملاحقها.


قلت لها: إننا الرجال بالفعل لا نشعر بما تتعرضون له من مضايقات وملاحقات، ماذا عن مصر ألم تتعرضي لمضايقات؟ قالت: لا لم أتعرض لأية مضايقات ولكنني كنت في تلك السفرة مع صديقي...قلت لها: ربما كان وجود صديقك معك حماية لك، ففي الثقافة الشرقية لا أحد يقترب من الفتاة التي تمشي مع رجلها (الدكر بتاعها).


ومع اقتراب وصولنا إلى ملبورن أخذت تريني صوراً للطبيعة في فنلندا  ولغروب الشمس على البحر كان صوراً جميلة وساحرة. ثم قالت: إنني أفتقد بلادي رغم أنني لا أتخيل نفسي أعيش هناك طول العمر، ربما أخذ أمي ونعيش كما قلت سابقاً في أحد بلدان أمريكا اللاتينية. قلت لها: إذا أمك هي وطنك الذي لا تستغنين عنه! قالت: يبدو أنه كذلك...أخبرني أيهما تفتقد أكثر السعودية أم الصومال؟. قلت لها: لقد سألتي سؤالاً صعباً في الحقيقة السعودية هي البلاد التي ترعرعت فيها وأفتقد فيها بعض الأماكن على وجه الخصوص ولكن أكثر ما أفتقده هم رفاقي وأصدقائي هنالك. أما الصومال فهي بلادي التي ولدت فيها ويعيش عليها أهلي وقومي ورغم أني لم أترتع فيها إلى أنني أحمل لها حباً عظيماً. لذلك سأقول أنني أفتقد أكثر إلى الصومال..أفتقد إلى البلاد التي أطمح أن تكون.


قالت ياسمينا أن أمها ستأتي إلى سيدني بعد يومين وأنها ستسافر إلى سيدني لقضاء وقت ممتع مع والدتها وترتيب جدول سياحي لها. فأمها تحب الموضة وتحب السباحة وستجد الكثير من الشواطئ الجميلة للحصول على بعض اللون والهروب من ثلوج فنلندا إلى شمس وصيف استراليا. قالت أنها ربما لن تعود إلى ملبورن وأن هذه الرحلة كانت وداعية وكانت أجمل وداع لهذه المدينة التي أحبتها وأحبت أهلها.


عدنا إلى مدينة ملبورن في التاسعة مساءاً وتوقفنا عند نفس المقهى الذ انطلقنا منه صباحاً. ودعت ياسمينا وتمنيت لها إجازة سعيدة برفقة والدتها في سيدني وأن تبقى على تواصل في حال أرادت أية معلومات إضافية عن الصومال أو الشرق الأوسط والخليج. وهي بدورها ودعتني قائلة: أشكرك على رفقتك اليوم ولولا وجودك لربما كانت الرحلة أطول مما كانت فلم أشعر بالوقت مع حديثنا الشيق. افترقنا في محطة القطار ومضى كل منا إلى طريقه وحياته وكان آخر ما قالته لي ياسمينا: لا تقلق من المستقبل ..كل شئ سيكون على ما يرام.



الأحد، 3 يناير 2016

هكذا كنت أحلم





حينما كان المدرس يسألنا في درس التعبير عن أحلامنا كنت أجيب بقطعة فيها الكثير من الطموح الممزوج بسذاجة الأطفال التي لا تعترف بسقف للأحلام و لا تعرف معنى لواقعية الكبار. أخبرته بأنني أحلم أن أطير كطائرٍ لا يأبه بتكالب الصيادين عليه فارداً جناحيه يطير بسعادة و أخبرته بأنني أحلم بأن أصبح رئيساً للصومال و من ثم رئيساً للإتحاد الإفريقي و من ثم رئيساً للأمم المتحدة و قتها كنت أعتقد أن الأمم المتحدة تسيطر على العالم و أنها أقوى من أمريكا.

أخبرته بأنني حلمت بفتح القدس و تحريرها من اليهود، و حلمت بالغنى و الثراء لأساعد كل فقراء العالم و أبني بيتاً و مدرسة لرعاية الأيتام. حلمت بإطعام كل فم جائع في إفريقيا حلمت بأن أكون أبا للمساكين. حلمت بأن أعود للوطن و أستقر في هرجيسا و أبني مدينة عصرية في غمضة عين مستعينا بفانوس علي بابا السحري ، حلمت بالمحافظة على النباتات و الغابات و الطبيعة الخلابة لبلادنا.

حلمت بإمتلاك مزرعة كبيرة في جبال شيخ أجمع فيها الخيول و الأنعام أركبها و أذهب إليها كل صيف لأمتع ناظري من جمال الطبيعة الخلابة ممتطياً الخيول العربية و الصومالية كفارس شهم نبيل كريم. حلمت بأن أدرس علم الفلك و أكتشف الكواكب و المجرات بحثاً عن حياة أخرى في هذا الكون الفسيح.

حلمت بإستخراج النفط من الصومال ،حلمت بإفتتاح دورة الألعاب الأولمبية في أولمبياد هرجيسا عام 2050 م ، حلمت بصنع المحبة و الألفة بين البشر و أن نعيش في مدينة فاضلة الكبير يعطف على الصغير و الصغير يحترم الكبير و الكل يحب الكل لا عنصرية لا استحقار لا طبقات ، رغم أن المحبة لاتصنع و لكنه مجرد حلم لطفل صغير.

و كتبت لاحقا قطعة أدبية لطيفة تعبر عن بعض من تلك الأحلام:

يوما ما
حلمت حلما مجنون
أني أعبر أفلاك الكون
و أكشف سراً مدفون
لحياة أخرى لا يعلمها
سوى القائل كن فيكون

و مرة أخرى
حلمت حلما مجنون
بأني فاتح فلسطين
من بعد الذل و ذا العار
أقود جيوش الأحرار
لينتصروا على التنين
أحفادا باريين
للناصر صلاح الدين

و حينا آخر
حلمت حلماً مجنون
أنني حقا طائر النسرين
أطير فوق حقول الياسمين
أقطع السنين
و أقطف الورود
لمداواة الوريات المجانين
و تبصيرهم في الدنيا و الدين
فهل حققت أحلامي؟!
أم تاهت مناماتي؟!

بعض هذه الأحلام تساقطت كأوراق الخريف و بعضها توارى خلف ستار الواقعية و بعضها تم تأجيله حتى حين. ربما لن نحقق كل أحلامنا و ربما لن تكفينا عدة حيوات لتحقيقها لكنه من حقنا بل من الضروري أن نحلم و نسعى خلف تحقيقها. قد نراجع قائمة أحلامنا لاحقاً .. ربما نضيف أحلاماً جديدة لم تخطر لنا على بال أو قد نتخلى عن أخرى قديمة.

ليس مهماً الوصول لتحقيق الحلم قدر أهمية الرحلة على طريق السعي خلف هذا الحلم، فكم من المفكرين و أصحاب الرؤية لم تتحقق أحلامهم إلا بعد وفاتهم. تماماً كمارتن لوثر كنق صاحب المقولة الشهيرة " أنا لدي حلم" والذي كان يسعى للحصول على حقوق السود في أمريكا و مساواتهم في الحقوق و الواجبات مع البيض. قال في آخر خطبة له قبل اغتياله " لقد وصلت إلى قمة الجبل و إنني لأشاهد أرض الميعاد ربما لن أصل معكم و لكننا سوف نصل هناك". هنا تتجلى تلك الحكمة القائلة " يموت البطل و تحيا القيمة".

العظماء يسعون خلف تحقيق أحلامهم و لا يهمهم تثبيط المحيط بقدر أهمية إيمانهم بأنفسهم، فهم يرون أحلامهم متحققة متى ما سلكوا الطريق الصحيح و اتجهوا الوجهة السليمة. حينها لا يفصلهم عن تحقيق الحلم سوى مسافة طريق تسمى "الزمن" ، بقي أن أشير إلى أن مدرس التعبير كان دوماً يعطيني العلامة الكاملة في هذه المادة يبدو أنه أعجب بخيال و خربشات ذلك الفتى الصغير المفعم بالأحلام و الأمل.



السبت، 2 يناير 2016

سأذهب إلى الأندلس




في مثل هذا اليوم الثاني من يناير لعام 1492 استسلمت مملكة غرناطة آخر امارة اسلامية في شبه الجزيرة الايبيرية(الاندلس) .. وبذلك يسقط آخر حكم للمسلمين في الأندلس . كان لدي صديق فريد من نوعه أيام المتوسطة و الثانوية اسمه علاء، في المرحلة المتوسطة كنت خارج المنزل لا أتحدث إلا بالعربية الفصحى. كنت وقتها أستمع للمحاضرات و الوعظ و كنت متأثراً بكتب التاريخ. صديقي علاء و هو من دومة الجندل شمال المملكة، كان أيضاً مهوساً بكتب التاريخ و تحديداً كل ما يخص أيام العرب القديمة من العرب العاربة و المستعربة و الكنعانين و الآراميين..إلخ. لكن كان عشقه الأزلي أرض الأندلس التي كان يحبها و يحدثنا عنها دائماً. 

كان هو الآخر يتحدث بالعربية الفصحى وقتها، أعتقد أنه قد تأثر بي و شجعته على الحديث بالفصحى. لكنه أخذ الأمر بجدية أكبر فقد كان يتحدث بالعربية الفصحى حتى مع أهله في المنزل كما سمعت. كان يعيش في عالمه الخاص و كنا صديقين مختلفيين عن بقية التلاميذ لكنني كنت أنسى العربية حينما أدخل للمنزل و أتحدث مع أهلي باللغة الصومالية بعكس علاء الذي يبدوا و كأنه قطع عهداً أن لا يتحدث إلا بالفصحى مهما كانت الظروف. 

في أوقات كثيرة كان الآخرون لا يفهمون سر تمسكه بالعربية الفصحى ، كان أمراً مستهجناً لديهم و مثيراً للسخرية. بالعكس من علاء فقد استسلمت للضغوط و لم أعد أتحدث بالفصحى في المدرسة مع دخولنا المرحلة الثانوية. و رغم ذلك بقيت صداقتنا كما هي، و كنا نقضى أوقات فترة الفسحة المدرسية في مكتبة المدرسة نقرأ الكتب ..تلك المكتبة التي كانت تبدو شبه مهجورة.

لا أعلم مالذي جعلني أتذكر علاء اليوم و لكن أذكره حينما كان يغضبه زملاء الدراسة بسخريتهم من لغته. كان يقول إنني ذاهب إلى الأندلس و يتجه باتجاه الصحراء التي كانت تحيط الحي السكني في محيط مطار الملك خالد الدولي بالرياض. و كلما رأيته هكذا عرضت عليه أن أرافقه و أقول له "سأذهب معك إلى الأندلس هيا بنا" و نبقى نتحدث في الطريق عن أمجاد الأندلس.. عن جمال غرناطة و بهاء قرطبة..عن المرابطين و الموحدين .. و عن الرشيد و المعتصم و المتنبي و محمد الفاتح. كان علاء يردد قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس التي كان يحفظها عن ظهر قلب و كنت أردد معه: 

لكل شئ إذا ما تم نقصان ...فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول ....من سره زمن ساءته أزمان
و هذه الدار لا تبقى على أحد ...و لا يدوم على حال لها شان

إلى نهاية القصيدة:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد ...إن كان في القلب إسلام و إيمان

قبل عدة أشهر حضرت حفل زفاف لأحد أصدقاء الدراسة و سألت عن علاء ، قيل لي أنه ظل يتكلم العربية الفصحى حتى تخرج من الجامعة و بدأ رحلة التدريس كمعلم لكن يبدو أنه الآن تخلى عن العربية الفصحى بعد صمود سنين طويلة أمام مجتمع يسخر من لغته الأم. للأمانة سمعت مرة واحدة أنه تحدث كلمة بالعامية لأخي محمد الذي أزعجه و هو معه في سيارته حيث كان المكيف على ال (2) فطالب أخي بزيادة البرودة..فأجابه علاء: اثنين و تخب عليك !(تخب عليك معناته كثيرة عليك) وقتها أصيب أخي بصدمة و ضحكنا كثيراً لأنه كان نادراً أن يروى عن علاء بأنه تحدث باللهجة العامية.

تحية إلى صديقنا علاء و أحييه على شجاعته في التمسك باللغة العربية و تاريخ الأمة.



الخميس، 31 ديسمبر 2015

(Wadaad iyo Waranle) الشيخ و المحارب



كان المجتمع القبلي يقسم الرجال إلى قسمين إما أن يكون محاربا و هذا هو الأغلب أو شيخا. كان لفظ الوداد يطلق على الذين تعلموا العلوم الشرعية و هم بدورهم مقسمون إلى فئتين فئة يقال لهم ( Aw hebel ) و هم الذين تعلموا الدين في الداخل و لم يسافروا للخارج أما الذين تعلموا الدين في الخارج فكان يطلق عليهم لقب ( Sheikh hebel ) الشيخ فلان.

أما بقية الرجال فكان يطلق عليهم ورنلي (محارب) بلا استثناء و هذا اللقب كناية عن أنهم يحملون الرماح و السلاح للدفاع عن القبيلة و حيث لم تكن هناك دولة فكانت كل قبيلة مسؤلة عن حماية أفرادها و عندما يتم التعدي و التجاوز على أحدهم فهذا يعني التعدي و التجاوز على القبيلة بأكملها و لهذا كان هؤلاء المحاربون على أهبة الاستعداد دائما لأي طارئ.

أما الشيوخ فكانوا يربأون بأنفسهم بأن يدخلوا في الصراعات بحكم علمهم الديني حيث تنص تعاليم الإسلام على حرمة دم المسلم , و يلعب الشيوخ دورا كبيرا في الصلح و حقن الدماء حيث يقفون في موقف الوسط بين المتقاتلين ويكونوا وسطاء للسلام.

و هنا تسآلت بيني و بين نفسي هل أنا وداد أم ورنلي؟

حقيقة لا أعلم ما الذي يصيبي حينما أرى الرمح و لكن عيناي تلمع فجأة و أشعر و كأن هناك قوة كالمغناطيس تجذبني إليه, كأن روحاً أزلية تتلبسني ! ربما هي روح الأجداد التي طالما كان هذا الرمح لا يفارقها في حلها و ترحالها.

و أذكر أن أول درس أخذناه في أول سنة في الجامعة في مادة التربية البدنية كان درس لألعاب القوى في رمي الرماح و كنت مغترا بنفسي و أثرثر كثيراً كيف أنني لم أمسك رمحاً من قبل و لكن بما أن أجدادي كانوا ماهرين في رمي الرماح فلابد أن أكون مثلهم بالفطرة. كنت أضحك على محاولات من سبقني و المدرس المصري السويفي (من بني سويف) رحمه الله يعلق على طريقة رمي الشباب المضحكة للرماح فيقول لأحدهم " ايه يا بني هو أنت بتحدف طوب ؟".

و حينما حان دوري كنت اتمتختر في مشيتي و أمسكت بالرمح و كأنني خبير رماية و ركضت ركضة واثقة مثل التي أشاهدها في الأولمبياد, فحتما سأكون أفضلهم رماية و أبعدهم إصابة فأنا سليل المحاربين (الورنلي) , استجمعت كل قواي و أنا أرمي رميتي الأولى. في البداية بدت و كأنها الرمية الحلم كما تخيلتها في مخيلتي و لكنني لم أعمل حساباً للرياح فكان أن ارتفع رأس الرمح رويدا رويدا للأعلى بدلا من أن يتجه للأرض و إذ بالرمح يهبط متعامدا على الأرض ثم يقع على الأرض بهدوء مستفز!

أنا وقفت مذهولاً لفترة غير مصدق لما حدث, و يومها تعلمت أن لا أتباهى بمهارة أجدادي فهذه المهارة لن تورث تلقائيا إذا لم أتدرب كغيري. كما أن الضحك و الشماتة بالآخرين عواقبه وخيمة و الجزاء من جنس العمل.

يبقى أنني بطبعي أميل إلى تغليب السلام و السعي فيه فربما من حيث الطبيعية أكون أكثر قرباً إلى فئة الوداد الذين لم أنل علمهم و تقواهم, لكن هناك بذرة داخل النفس تميل إليهم و إلى مسارهم و كما قال أحدهم أحب الصالحين و لست منهم. وفي نفس الوقت كلما مررت برمح تلمع عيناي و كأن هناك ورنلي بداخلي يود الخروج إلى الوجود.


الاثنين، 14 ديسمبر 2015

500 شلن



اليوم عدت للعمل بعد اجازة قصيرة و حصل معي موقف جميل، و أنا في المكتب دخل علينا عامل النظافة في المبنى و اسمه عبدالله من الهند. و قال لي " تعال لو سمحت .. الفورمان يبي انت" و الفورمان هو كبير عمال النظافة. قمت معه و سلمت على الفورمان و أنا أظن بأنه سيسألني أمراً يختص بالنظافة أو عن السيارة في الموقف. لكن فاجأني حينما قال لي " أنت في فلوس ؟" و أشار بيده اليمنى بحركة الكاش و هي عبارة عن فرك متسارع بين اصبعي السبابة و الإبهام.

فكرت هل في فلوس ما عطيتها له ؟! ما تذكرت أي تعامل مالي بيننا. و أردف بسؤال" أنت من السودان؟...في فلوس سودان ؟ " فأجبته " لا أنا صومالي" ..فهمت منه أنه يبي يشوف فلوس مال بلد أنا .. قلت له حظك كويس أنا معي فلوس مال بلد في الشنطة لحظة انتظر.

رجعت لشنطتي و وجدت فيها مجموعة من فئات ال 500 شلن صوماليلاندي. اخرجت لهما ورقة واحدة و ثم شرحت لهما الغنم البربري ذو الرأس الأسود .."أنت شوف غنم راس أسود في الصورة ؟..هذا يجي سعودية بعدين أكل لحم" ثم هز عبدالله و الفورمان برأسيهما كناية عن معرفتهما بالغنم البربري...سألني الفورمان إذا كان يقدر يأخذ معه العملة ...أنا قلت له خذها و لكن وين بتوديها؟ ..قال " أنا في ركب جدار" و ما فهمت منه أنه يجمع عملات لبلدان مختلفة و يضعها عنده في حائط المنزل.

حقيقة سعدت باهتمامه بهواية جميلة مثل جمع العملات، فهذا يدل على حب للمعرفة و الاطلاع على ثقافات الأمم الأخرى. و هذا دليل على الانفتاح و حب الحياة و سعة الأفق. فتحية للفورمان و للأخ عبدالله و أتمنى أن أكون ساهمت في إثراء جدار منزلهما ب 500 شلن صوماليلاندي.

أما في المساء حصل معي موقف آخر و أنا خارج من المسجد بعد صلاة المغرب، حيث لحقني رجل صومالي و دخل معي البقالة و حدثني و كأنه يعرفني " أدير كيف الحال؟ و كيف حال أخوك أحمد ؟" و أنا مشغول بتجميع أغراضي و حينما لم يتوقف عن توجيه الحديث لي. قلت له للأسف يا شيخ أنت غلطان فأنا لا أعرفك و ليس عندي أخ اسمه أحمد و ليس لدي أهل هنا. لكن للأمانة فهناك الكثير ممن يستوقفني و يقول أنك تشبه فلان أو فلان الصومالي، فربما أكون نموذجا صوماليا من حيث تفاصيل الوجه و الجبهة أو ما يعرف بال
Typical Somali و ثم فالصوماليون يحملون دماء واحدة. 

تحدثت معه لبرهة حتى اقتنع أنني لست من يبحث عنه أو انني لا أصرفه. رغم انني من البداية كنت ناوي اقول له " ترى في كثيرين يشبهوني بالصوماليين لكني مش صومالي" كنت أفكر أشوف ردة فعله وقتها ، لكنني لا يمكن أن أنكر صوماليتي مهما حدث فأنا اعتبر نفسي صومالي .. مسلم .. إنسان. 

ملاحظة: أنا استغرب من حديثنا مع العمال بلغة عربية ردئية، حيث الأجدر أن نحدثهم بعربية صحيحة حتى يتعلموا اللغة..فلا نجد أحدا يتكلم معك بلغة انجليزية رديئة لاجل أن تفهمه بل على العكس يكلمك بلغته و إن اضطر قد يتكلم ببطء لكي تفهمه. أتمنى أن نحذو نفس الحذو و حتى ذلك الحين ما زال يتردد في ذهني كلمات سائق التاكسي قبل أيام و الذي ركبت معه و أنا متأخر عن رحلة القطار في الرياض ..حيث قال لي " ما في خوف صديق أنا في معلوم اختصارات ..اختصارات" و بالفعل وصلنا مبكراً و تجنبنا زحمة الرياض بمعرفته الضليعة ب " اختصارات ..اختصارات".


الأحد، 9 أغسطس 2015

شكراً هرجيسا



الحمدلله قضيت أياماً جميلة هذه السنة في هرجيسا بداية من العشر الأواخر من رمضان و العيد و رحلة لاس قيل و الهاتريك الذي أحرزته في المباراة الآخيرة و معرض الكتاب و ليالي السمر مع الأهل و الأصدقاء.

هناك الكثير مما يمكن انتقاده في بلادنا و هناك مجال واسع و مفتوح لعمل المفيد و تقويم الأخطاء. لكنني اليوم سأتحدث بعين الممتن الذي يشكر الله على نعمه فكل يوم قضيته هنا كان بمثابة تحقيق حلم جميل واضح المعالم.

فكل جلسة مع أبي و كل حديث معه كانت نعمة و كذلك حديثي و تقبيلي لرأس أمي وجدتي نعمة، تناولي للحوح أو العانجيرو في الفطار بعد العودة من صلاة الفجر كل يوم كان نعمة. جلساتي مع الأصدقاء و تعرفي على المزيد من العقول النيرة و الواعدة كانت نعمة... كل ابتسامة و كل نسمة هواء تنفستها في وطني كانت نعمة تستحق الشكر.

في الليلة قبل الأخيرة سمرت مع الأصدقاء في أحد القهاوي الجديدة و ثم تناولنا وجبة عشاء وداعية جميلة مكونة من البيتزا اللذيذة و طبق السلطان المكون من مختلف أنواع اللحوم. كانت ليلة جميلة انتهت بالكثير من الضحكات و اللحظات الرائعة بصحبة الأصدقاء الذين ودعتهم.

أما الليلة الأخيرة فخصصتها للأهل قمت بزيارة جدتي و وداعها مقبلا رأسها رغم محاولاتها منعي من ذلك.. انتهى الأمر بتسوية أن يقبل كل منا رأس الآخر و ظلت تدعوا لي طويلاً و أنا أؤمن ورائها و أدعوا لها بالصحة و طول العمر.

في الليلة الاخيرة كانت قدماي لا تكاد تحملني و نبضات قلبي تتسارع كلما اقتربت ساعة الرحيل. في المسجد أتأمل المصلين و في كل صلاة أقول هذه آخر صلاة مغرب أصليها في هرجيسا.. هذه آخر صلاة عشاء.. هذه آخر صلاة فجر.. هذه آخر وجبة لحوح.. هذه آخر مرة أنام في بيتنا.. سمرت ليلاً مع إخواني و أخواتي و كانت ليلة جميلة.. ودعتهم اليوم صباحاً و ودعت أمي و آخيرا أبي على أعتاب بوابة مطار عقال الدولي في هرجيسا.

وداعاً هرجيسا وداعاً لجميع الأهل والأصدقاء، شكرا لكم جميعاً على أن منحتموني أجمل الأوقات، سيأتي يوم و أقضي معكم فيه أوقاتا أطول لأقاسمكم همومكم و مصيركم. أنا ممتن لكم جميعا و أختم كلامي بقول سيد الأنام المصطفى صلى الله عليه وسلم.... أفلا أكون عبدا شكورا... و الحمدالله أولاً و آخرا.

الأحد، 14 يونيو 2015

ليبان الصغير و ألف ليلة و ليلة (الليلة الثالثة و الأخيرة)


الليلة الثالثة و الأخيرة


بعد أن نجا ليبان و أهله من الألغام التي انفجرت على بعد أمتار قليلة تم استئناف القصف الجوي والهجوم من قبل الأوغاد. فعلم أهل ليبان وغيرهم من العائلات أن لا مفر لهم سوى أن يهربوا خارج البلاد حتى لا تطالهم أيدي جنود وأعوان الوالي الظالم. فكانت أمنيتهم أن يصلوا للحدود الإثيوبية حتى يصبحوا في أمان وبعد طريق طويل وعناء شديد تجاوزت العائلات الحدود ووصلوا لمدينة تسمى ( ديري داوا ) في الجانب الإثيوبي، حيث كان يخرج من هذه المدينة قطار يقل الفاريين إلى دولة جيبوتي المجاورة.
 و عندما ركبت عائلة ليبان القطار تم سؤال جميع الركاب عن أصولهم فقالت أم ليبان أنهم ينتمون إلى قبائل الشيخ إسحاق فنظر العسكري لها بنظرة مشمئزة وأمر بإنزال كل من ينتمى لهذه القبيلة من الركاب وتم حبس الجميع في سجن خاص جمعت فيه النساء ولم يكن من الأطفال سوى ليبان وإخوانه وأمر الباقون بالمغادرة على متن القطار.
و لما رأي العساكر من أمر الصغير ليبان و إخوته تسللت الرحمة إلى قلوبهم و أخذوا يغدقون عليهم بالأطعمة و خاصة المعكرونة اللذيذة التي كاد ليبان أن ينسى طعمها فسبحان الله الذي أنزل الرحمة في قلوب الجنود على الأطفال، و مع ذلك لم يأكل الأطفال كثيرا حيث كانت النساء تشاركن الأطفال الطعام فهم كما يبدوا لم يروا هذا النوع و الكم من الطعام منذ أمد بعيد فأكلوا وشبعوا و دعوا الله مخلصين أن تدوم بركة هؤلاء الأطفال وأن يطول مقامهم طالما بقوا في هذا السجن.
و كان من أمر السجان والعساكر إخراج المحابيس في النهار لكي يستنشقوا قليلاً من الهواء العليل فكان الصغير ليبان و إخوته يستغلون الوقت بلعب الألعاب الشعبية، و في مرة من المرات رآئهم راعي إبل بدوي فقال أين أمكم؟ فأشار ليبان على أمه فذهب الراعي إليها وقال لها : ما رأيك أن تعطيني ولدك هذا و هو يشير إلى ليبان وأنا أربيه لك ليصبح في عداد الرجال برعيه للجمال؟. فأنتم هنا ربما تموتون ولايفرج عنكم وأنا أكلم العساكر فهل ترضين بأن تعطيني هذا الصبي ؟
نظرت أم ليبان إليه مستغربة غير قادرة على الكلام ونادت أولادها و احتضنتهم ولم ترد على الراعي البدوي ففهم الرجل بالإشارة أن مناقشة الأمر بحد ذاته  مرفوض في قاموس الأمهات ، فكيف بأم قاست ومضت في طريق الأهوال من أجل حماية فلذات أكبادها ومضى الراعي في طريقه مع جماله و إبله من غير رجعة.

وبعد مضي عدة أيام أشفق الحراس على الأطفال وأمهم فأمروا بهم أن يسافروا في أقرب رحلة في القطار المتجه إلى جيبوتي. وفعلا أتى القطار واستبشرت أم ليبان بأن أيام الشقاء إلى زوال فهي لديها أقارب في جيبوتي و ستنزل في ضيافتهم حالما تصل هناك مع أبنائها.ومن الفرحة ركبت أم ليبان القطار على عجل ومعها ليبان وأخته الصغيرة و لم تنتبه أن ابنها البكر قد ذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة و بدأ القطار بالحركة و لا يمكن إيقاف القطار إذا تحرك.
 و حينما خرج أخو ليبان ليلحق بأهله وجد القطار قد بدأ بالحركة فركض خلف القطار و رآءه أحد الرجال في المحطة وهو يركض فأسرع إلى حمله والجرى به ثم رماه في القطار، فجزاه الله خيرا حيث لم شمل الأسرة من بعد أن كادت تحل بهم العسرة.
واتجه القطار إلى دولة جيبوتي الشقيقة وعندما وصل هناك كان باستقبال عائلة ليبان أقارب لهم في جيبوتي فأكرموهم أحسن إكرام ، وكان لدى هذه العائلة الجيبوتية ابنتان توأمان اسمهما نفيسة ونعيمة فكانت نفيسة تدلع ليبان وتأتي له بالحلوى كل يوم بينما نعيمة كانت تهتم بأخي ليبان وكانت التوأمان تتنافسان في إرضاء الصغيرين وكان المستفيد الأول ليبان وأخوه حيث شبعوا من الحلوى الجيبوتية وأنواع الحلوى الأخرى.
مضت الأيام في جيبوتي و الصغير ليبان يشتكى من حرارة الجو ورطوبته فهو لم يعتد على هذا النوع من الأجواء حيث يتطلب الأمر تغيير الملابس يوميا لإبتلالها برطوبة البحر فكان الخروج من المنزل بحد ذاته أمرا صعبا في النهار فكان ليبان يتسلى بمشاهدة التلفاز العجيب الذي كان ينقل مباريات لكرة السلة الأمريكية.
واستمر ليبان وأخوه بالمشاغبة حتى في جيبوتي فكانوا في الليل يجمعون الزجاجات الفارغة ويصعدون إلى السطح ومن ثم يرمون الزجاج على المارة لإخافتهم والضحك عليهم من أعلى العمارة. ولن ينسى ليبان اليوم الذي ذهبوا فيه في نزهة بحرية للسباحة في شاطئ جيبوتي فأخذ يلعب مع أخيه وفجأة ومن حيث لا يدري ليبان قبض أخوه على رأسه فأدخله تحت الماء وحينما حاول ليبان فتح عينيه تحت الماء تسلل الملح إليهما فجلس فترة طويلة يفرك عينيه ألما ومنذ ذلك اليوم وليبان لايحب البحار ويتعامل مع الشواطئ بكل حذر وانتباه.
 و في ليلة من الليالي رأى ليبان الصغير في منامه أنه مع جدته وخالته في غرفة بيتهم في هرجيسا و رأى باب الغرفة قد تغير وأصبح نافذة إلى عالم آخر وخرجت منه عجوز شمطاء تريد قتل الصغير ليبان ، و لكن جدته أمسكت به ورمته في ذاك العالم الآخر وهي تقول له اهرب من تلك العجوز. فدخل ليبان في ذاك العالم الأخر وبدأ يرى حوله من الخراب ما الله به عليم و العجوز الشمطاء تلحق به لتقتله و قد اقتربت منه و بيدها سكين حاد.
ليبان يهرب وهي تقترب وهكذا دواليك حتى استطاعت أن تجرحه في ذراعه بسكينها ولكن الإصابة لم تكن مميتة. فاختبئ ليبان في منزل مهجور وتربص بالعجوز و كان في وسط البيت المهجور حفرةُ كبيرة فدخلت العجوز فأتى ليبان من ورائها و دفعها ا إلى الحفرة فوقعت شر وقعة، وهي تستنجد به ليخرجها فنادى ليبان جموعاً من الناس وبدأو في رمي العجوز بالحجارة والزجاج حتى ماتت. عندها استيقظ ليبان من المنام و أدرك أنه في مأمن من الحرب و أنها انتهت على الأقل بالنسبة له.
وبعد عدة أشهر صدرت الفيزا إلى السعودية حيث كان يعمل أبو ليبان منتظراً عائلته بشغف كبير ، فاستقبلهم في المطار و أصبح مسرورا وبالخير مغمورا. وحمد الله على أن سلم له أولاده وأمهم فخلع على أولاده بخلعةٍ سنية جليلة ، وأقيمت الإحتفالات ودقت الطبول وزمرت الزمور وكانت ليلة عظيمة لا تنسى من أيام الله الخالدة. فأقاموا بعدها في نعمة و سرور و لذة و حبور فسبحان الله الذي لا يفنيه تداول الأوقات ولا يعتريه شي من التغييرات ولا يشغله حال عن حال و تفرد بصفات الكمال. و الصلاة والسلام على إمام حضرته و خيرته من خليقته سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم سيد الأنام و على آله الكرام أفضل الصلاة وأتم التسليم.


تمت