في مثل هذا اليوم الثاني من يناير لعام 1492 استسلمت مملكة غرناطة آخر امارة
اسلامية في شبه الجزيرة الايبيرية(الاندلس) .. وبذلك يسقط آخر حكم للمسلمين في
الأندلس . كان لدي صديق فريد من نوعه أيام المتوسطة و الثانوية اسمه علاء، في
المرحلة المتوسطة كنت خارج المنزل لا أتحدث إلا بالعربية الفصحى. كنت وقتها أستمع
للمحاضرات و الوعظ و كنت متأثراً بكتب التاريخ. صديقي علاء و هو من دومة الجندل شمال
المملكة، كان أيضاً مهوساً بكتب التاريخ و تحديداً كل ما يخص أيام العرب القديمة
من العرب العاربة و المستعربة و الكنعانين و الآراميين..إلخ. لكن كان عشقه الأزلي
أرض الأندلس التي كان يحبها و يحدثنا عنها دائماً.
كان هو الآخر يتحدث بالعربية الفصحى وقتها، أعتقد أنه قد تأثر بي و شجعته
على الحديث بالفصحى. لكنه أخذ الأمر بجدية أكبر فقد كان يتحدث بالعربية الفصحى حتى
مع أهله في المنزل كما سمعت. كان يعيش في عالمه الخاص و كنا صديقين مختلفيين عن
بقية التلاميذ لكنني كنت أنسى العربية حينما أدخل للمنزل و أتحدث مع أهلي باللغة
الصومالية بعكس علاء الذي يبدوا و كأنه قطع عهداً أن لا يتحدث إلا بالفصحى مهما
كانت الظروف.
في أوقات كثيرة كان الآخرون لا يفهمون سر تمسكه بالعربية الفصحى ، كان
أمراً مستهجناً لديهم و مثيراً للسخرية. بالعكس من علاء فقد استسلمت للضغوط و لم
أعد أتحدث بالفصحى في المدرسة مع دخولنا المرحلة الثانوية. و رغم ذلك بقيت صداقتنا
كما هي، و كنا نقضى أوقات فترة الفسحة المدرسية في مكتبة المدرسة نقرأ الكتب ..تلك
المكتبة التي كانت تبدو شبه مهجورة.
لا أعلم مالذي جعلني أتذكر علاء اليوم و لكن أذكره حينما كان يغضبه زملاء الدراسة
بسخريتهم من لغته. كان يقول إنني ذاهب إلى الأندلس و يتجه باتجاه الصحراء التي
كانت تحيط الحي السكني في محيط مطار الملك خالد الدولي بالرياض. و كلما رأيته هكذا
عرضت عليه أن أرافقه و أقول له "سأذهب معك إلى الأندلس هيا بنا" و نبقى
نتحدث في الطريق عن أمجاد الأندلس.. عن جمال غرناطة و بهاء قرطبة..عن المرابطين و
الموحدين .. و عن الرشيد و المعتصم و المتنبي و محمد الفاتح. كان علاء يردد قصيدة
أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس التي كان يحفظها عن ظهر قلب و كنت أردد معه:
لكل شئ إذا ما تم نقصان ...فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول ....من سره زمن ساءته أزمان
و هذه الدار لا تبقى على أحد ...و لا يدوم على حال لها شان
إلى نهاية القصيدة:
لمثل هذا يذوب القلب من كمد ...إن كان في القلب إسلام و إيمان
قبل عدة أشهر حضرت حفل زفاف لأحد أصدقاء الدراسة و سألت عن علاء ، قيل لي
أنه ظل يتكلم العربية الفصحى حتى تخرج من الجامعة و بدأ رحلة التدريس كمعلم لكن
يبدو أنه الآن تخلى عن العربية الفصحى بعد صمود سنين طويلة أمام مجتمع يسخر من
لغته الأم. للأمانة سمعت مرة واحدة أنه تحدث كلمة بالعامية لأخي محمد الذي أزعجه و
هو معه في سيارته حيث كان المكيف على ال (2) فطالب أخي بزيادة البرودة..فأجابه
علاء: اثنين و تخب عليك !(تخب عليك معناته كثيرة عليك) وقتها أصيب أخي بصدمة و
ضحكنا كثيراً لأنه كان نادراً أن يروى عن علاء بأنه تحدث باللهجة العامية.
تحية إلى صديقنا علاء و أحييه على شجاعته في التمسك باللغة العربية و تاريخ
الأمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق