لطالما راودتني فكرة التوجه و الذهاب لجبلي ناسا هبلود (نهدي الفتاة) العلامة البارزة لمدينة هرجيسا منذ القدم فلن تكون الرحلة لهرجيسا مكتملة إذا لم أذهب إليهما. هذان الجبلان يبدوان من بعيد و تراهما من أي مكان في المدينة ، يراودك شعور أنهما قريبان شئ ما يجعلك تنجذب لهذين الجبلين التوأم.
فالأحاديث و الأساطير الشعبية
تؤكد أن الجبلين مرتع للجن و أن كل من يفقده أهله يجدونه في هذا الجبل. بعدما
يستيقظ المسكين و قد خُيل له كأنه ذهب إلى باريس أو أحد الدول الأوربية.شكلهما
الفريد جعلاني أتخيل أن لهما علاقة غير مباشرة مع الأهرامات المصرية ، و كأن
الفراعنة الذين قدموا إلى هذه الديار قبل آلالاف السنين قد استوحوا من هذين الجبلين
شكل الأهرامات. فهذه الديار هي أرض الآلهة و الأجداد بالنسبة للمصرين القدماء.
و في أحد الأيام عقدت العزم
على التوجه إلى هذين الجبلين مشياً على الأقدام و التحقق بنفسي من هذه المقولات و
الأساطير بعد تناول وجبة الغداء في الساعة الثانية ظهراً. و بينما الأهل يستمعون إلى إذاعة البي بي سي
الصومالية خرجت من المنزل و معي كمرتي و كلي عزم على الذهاب مشيا إلى ناسا
هبلود مضحياً بقيلولتي المعتادة بعد وجبة الغداء.
انطلقت من حارتنا (بيو دعي) مرورا بحي (عبايي)
الطريق لم يكن سهلا وكان جبليا و صخريا و متعبا للقدمين نوعا ما ، انطلقت بين
الحواري حتى وصلت لوادي قديم يسمى ب (بليقا دامي) كان هذا الوادي حدود هرجيسا الطبيعية قديما و كان أبي يلعب فيه في الصغر مع أصحابه.
الوادي كان مخضراً و معشباً ولكن كان يحوى كميات
كبيرة من المعلبات و الأكياس المرمية هنا و هناك.
مررت بعوائل فقيرة تعيش في هذه
المنطقة في بيوت كلها من الصفيح و غالب سكان هذه المنطقة من
الحرفيين الذين مارس و يمارس عليهم المجتمع نوعاً من العنصرية. حيث يرى الرعاة و
أحفادهم بأن في مرتبة أعلى من هؤلاء الحرفيين.بعدها ابتعدت عن المدينة متخطياً حي (الكلنكا) الذي يقع في أقصى المدينة ،
نزلت في منحدرات و صعدت أخرى فهذه المنطقة لا تصلح إلا للسيارات
ذات الدفع الرباعي كما يبدو.
ابتدأت حرارة الشمس بالارتفاع حالما تخطيت حدود العمران على غير العادة ذلك اليوم و كأنها علمت بخروجي فتصبب مني القليل من العرق و صعدت تلة صغيرة
على أطراف المدينة و رأيت من بعيد منظرا عاما لمدينة هرجيسا و لاحظت
إنعكاس أشعة الشمس من أسقف
البيوت الصفيحية و التي تسمى (جينقدا) و رأيت من بعيد مجموعة من الأشجار و رأيت قطيعاً من الغنم
و أطفالاً يلعبون من بعيد و في الجهة المقابلة لاح
لي من بعيد أحد الجبلين التوأم. و بعد اتضاح الرؤية و اكتمال الصورة بادرت بالتقاط
بعض الصور.
اقتربت ساعة العصر على المغيب
و قلت في نفسي لا داعي أن اقترب أكثر ، فالظلام قد يحل قبل أن أصل إلى الجبلين و
قد يحل و أنا هناك. كما أنني قد أصاب بالتعب من طول و مشقة الطريق و لا أقوى على
العودة خصوصاً و أنني لا أملك وسيلة مواصلات إلا قدماي فقط.
و لا أنكر أنني فكرت قليلاً
بقصص الجن و الأساطير التي تحوم حول المكان و خاصة أنني لم أخبر أحداً بما أنوي
فعله. كل ما أذكره أنني كنت سعيداً و أنا أمشي في هذه الأرض أراقب كل تفاصيلها
التي تشبهني في كل شي.قررت العودة و أن لا أنكفأ عن
التقاط الصور فقد صورت نوعاً من الحجارة التي تستخدم في دفن
الأموات و تعليم القبور خصوصا و أن هناك قبرا بالقرب من الجبل يدفن فيه الموتى . كنت أنحني حد التصاق بالأرض لكي
التقط صور الزهور و النباتات و حتى الحشرات و الحجارة كانت تبدوا أحلى في نظري.
وجدت فراشة جميلة ملونة بألوان زاهية و حاولت تصوريها أكثر من مرة و كنت متأكد من أن عدستي التقطتها و لكن عندما عدت و راجعت الصور لم أجد لها أثرا !!!! هل كانت من الجن يا ترى ؟!! أم أنني وصلت حد الهلوسة و الهيام و كنت أعيش أحلام اليقظة بعد التعرض للشمس و العطش.
من بعيد لاحلت لي منطقة فيها
أشجار و أغنام اقتربت منها و عندما تعمقت فيها و جدتها منطقة جميلة تصلح للخروج في
رحلة أو الكشتة كما نطلق عليها في جزيرة العرب. وجدت في تلك المنطقة بيوت النمل الصومالي المميزة و التي يبنيها نملنا كناطحات سحاب
تنافس الأشجار طولاً. أهلنا لا يحبون العبث بهذه البيوت و البعض يعتقد أنها مأوى
للجن أيضاً و لكن يكفى أنها صلبة و قوية حيث كانت تحمي ثوار
المقاومة من رصاص الحكومة البائدة
.
كنت أتمشى في زهو واضح تحت
ظلال الأشجار الجميلة ، أنظراً يميناً فأرى دبوراً أصفرا يشبه النحلة و هو يحاول
أخذ الرحيق من زهرة شجرة التين الشوكي. و أنظر شمالاً فأرى سنجاباً
صومالياً ، ركضت وراءه كالطفل في يوم العيد و حاولت تصويره كثيرا لكنه كان يهرب مني
و من كمرتي في كل مرة إلى أن تم
اصطياده أخيراً (صورته من
بعيد).
مضيت قدماً في طريق العودة و
أنا أسابق الزمن قبل غروب الشمس. و بينما أنا عائدٌ للمدينة شد نظري منظر شجرة تم
إحراقها لإستخراج الفحم النباتي
الصومالي. هذه التصرفات و
الممارسات تساهم بشكل كبير في زحف الرمال و التصحر فمنطقة ناسا هبلود كانت منذ
القدم مراعي خضراء جميلة و هي اليوم أقرب للصحراء و البقية
الباقية من الأشجار تحرق من جذورها ! لكي تذهب و تباع في البيوت و لا يوجد بيت في
المدينة لا يستخدم هذا الفحم
.
الجوان طبعا بحوالي 35 – 40 ألف شلن حوالي 40 ريال , هذا المنظر أحزنني كثيراً بعدما كنت مندمجا مع الطبيعة و الأعشاب و الزهور و الحشرات و الأشجار و السنجاب و بيت النمل و الجبل. تخيل كل هذا لك ينتمى لك لا أحد أحق به منك شعور الإنتماء شعور جميل جدا لا يوصف بالكلمات تحس كأنك و الأرض سواء أنت خلقت لها و هي خلقت لك تتوحدان في كيان واحد تسعد لأفراحها و تحزن لآلامها.
وصلت إلى أطراف المدينة و أنا في طريق العودة كنت مرهقا و متعبا و فكرت بأن أركب الباص من حي (الكلنكا) و لكن قلت دعني أمشي (كعابي) حتى البيت أريد أن أشم هواء بلدي أكثر و أود أن أتحامل على نفسي حتى لو كنت أشعر بالتعب. فلا أود تفويت فرصة مشاهدة الأطفال يلعبون في الشوراع أريد أن أعيش كل لحظة ، اشتريت شراب فانتا من محل على الطريق و بجانب المحل جلست للراحة و وجدت ديكاً ذكرني بديك في حارتنا قوي جداً يركض وراء الماعز فيهرب الماعز منه لأنه شجاع و يدافع عن حريمه بكل كبرياء
.
وصلت إلى حي (عبايي) و سلكت
طرقاً مختصرة لكنني تهت لأول مرة في أطراف المدينة. أحسست بالتوهان و أنا أمشي و أمشي في مناطق جبلية حجرية و بعد فترة أعود لنفس المكان و
كأنني أدور أدور في حلقة مفرغة. فلا توجد إشارات و لا علامات و
البيوت متشابهة ، جاتني فكرة جهنمية إن أنزل وسط البلد و أرجع إلى المنزل من هناك
ففي وسط البلد سأعرف من أين أتجه. وفعلا سلكت الطريق المؤدي إلى السوق و فجأة توقفت سيارة جراندي و عرض على صاحبها أن يوصلني إلى السوق.
فكرت قليلاً و لم أتردد
بالركوب معه فقدماي تكاد تتورم من كثرة المشي و التعب. تجاذبت أطراف الحديث مع
السائق بدا لي وجهه مألوفاً و بدأ هو أيضاً يتسائل : أين رأيتك ؟ تبدوا مؤلفاً لي.
هل أنت ابن فلان؟ في حي (بيو دعي) عند (درودرها) قلت نعم أنا هو. و بالفعل تذكرته فهو
الأخ ناصر من الجماعة و قد كانت عائلته طلبت مني العام الفارط أن أحمل لهم بعض
الأغراض في المطار إلى السعودية. تذكرته فقد رأيته أيضاً من قبل في مكتبة غاندي فعائلتهم
تملك المكتبة المشهورة و المجاورة لمركز الشرطة في المدينة.
كانت مصادفة سعيدة و عرض علي
أن يوصلني إلى المنزل لكنني فضلت أن يوصلني إلى السوق كما اتفقنا آنفاً. شكرته على
توصيلي بينما اتجهت مباشرة إلى محل نسيبة للعصيرات الطازجة لأطلب المانجو اللذيذ و
الطبيعي فالمانجو في بلادنا له طعم خاص جداً و تزيد خصوصيته حينما أكون عطشاناً. و
بعد شرب العصير استسلمت أخيراً لفكرة ركوب الباص إلى منزلنا فقدماي لم تعد تحملاني
من شدة التعب. فأكثر ما أتعبني هو فترة الضياع التي تهت فيها بين أحياء أطراف
المدينة.
وصلت لمنزلنا على أذان المغرب
و اتجهت مباشرة إلى مسجد الحارة فإقامة صلاة المغرب هنا تتم مباشرة بعد الأذان دون
انتظار عشرة دقائق كما تعودت هناك في البلاد العربية. عدت للمنزل بعد الصلاة بعد
يوم حافل و مرهق لكنه يستحق العناء فالمشي في الخلاء و البراري يعيد ألق الروح و
يصلك أكثر بالطبيعة و يغرز فيك الهدوء فكيف إن كان هذا البر هو
بر بلدك ، ليلتها غطت في نوم عميق و سبحت في عالم من الأحلام الجميلة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق