الأحد، 3 يناير 2016

هكذا كنت أحلم





حينما كان المدرس يسألنا في درس التعبير عن أحلامنا كنت أجيب بقطعة فيها الكثير من الطموح الممزوج بسذاجة الأطفال التي لا تعترف بسقف للأحلام و لا تعرف معنى لواقعية الكبار. أخبرته بأنني أحلم أن أطير كطائرٍ لا يأبه بتكالب الصيادين عليه فارداً جناحيه يطير بسعادة و أخبرته بأنني أحلم بأن أصبح رئيساً للصومال و من ثم رئيساً للإتحاد الإفريقي و من ثم رئيساً للأمم المتحدة و قتها كنت أعتقد أن الأمم المتحدة تسيطر على العالم و أنها أقوى من أمريكا.

أخبرته بأنني حلمت بفتح القدس و تحريرها من اليهود، و حلمت بالغنى و الثراء لأساعد كل فقراء العالم و أبني بيتاً و مدرسة لرعاية الأيتام. حلمت بإطعام كل فم جائع في إفريقيا حلمت بأن أكون أبا للمساكين. حلمت بأن أعود للوطن و أستقر في هرجيسا و أبني مدينة عصرية في غمضة عين مستعينا بفانوس علي بابا السحري ، حلمت بالمحافظة على النباتات و الغابات و الطبيعة الخلابة لبلادنا.

حلمت بإمتلاك مزرعة كبيرة في جبال شيخ أجمع فيها الخيول و الأنعام أركبها و أذهب إليها كل صيف لأمتع ناظري من جمال الطبيعة الخلابة ممتطياً الخيول العربية و الصومالية كفارس شهم نبيل كريم. حلمت بأن أدرس علم الفلك و أكتشف الكواكب و المجرات بحثاً عن حياة أخرى في هذا الكون الفسيح.

حلمت بإستخراج النفط من الصومال ،حلمت بإفتتاح دورة الألعاب الأولمبية في أولمبياد هرجيسا عام 2050 م ، حلمت بصنع المحبة و الألفة بين البشر و أن نعيش في مدينة فاضلة الكبير يعطف على الصغير و الصغير يحترم الكبير و الكل يحب الكل لا عنصرية لا استحقار لا طبقات ، رغم أن المحبة لاتصنع و لكنه مجرد حلم لطفل صغير.

و كتبت لاحقا قطعة أدبية لطيفة تعبر عن بعض من تلك الأحلام:

يوما ما
حلمت حلما مجنون
أني أعبر أفلاك الكون
و أكشف سراً مدفون
لحياة أخرى لا يعلمها
سوى القائل كن فيكون

و مرة أخرى
حلمت حلما مجنون
بأني فاتح فلسطين
من بعد الذل و ذا العار
أقود جيوش الأحرار
لينتصروا على التنين
أحفادا باريين
للناصر صلاح الدين

و حينا آخر
حلمت حلماً مجنون
أنني حقا طائر النسرين
أطير فوق حقول الياسمين
أقطع السنين
و أقطف الورود
لمداواة الوريات المجانين
و تبصيرهم في الدنيا و الدين
فهل حققت أحلامي؟!
أم تاهت مناماتي؟!

بعض هذه الأحلام تساقطت كأوراق الخريف و بعضها توارى خلف ستار الواقعية و بعضها تم تأجيله حتى حين. ربما لن نحقق كل أحلامنا و ربما لن تكفينا عدة حيوات لتحقيقها لكنه من حقنا بل من الضروري أن نحلم و نسعى خلف تحقيقها. قد نراجع قائمة أحلامنا لاحقاً .. ربما نضيف أحلاماً جديدة لم تخطر لنا على بال أو قد نتخلى عن أخرى قديمة.

ليس مهماً الوصول لتحقيق الحلم قدر أهمية الرحلة على طريق السعي خلف هذا الحلم، فكم من المفكرين و أصحاب الرؤية لم تتحقق أحلامهم إلا بعد وفاتهم. تماماً كمارتن لوثر كنق صاحب المقولة الشهيرة " أنا لدي حلم" والذي كان يسعى للحصول على حقوق السود في أمريكا و مساواتهم في الحقوق و الواجبات مع البيض. قال في آخر خطبة له قبل اغتياله " لقد وصلت إلى قمة الجبل و إنني لأشاهد أرض الميعاد ربما لن أصل معكم و لكننا سوف نصل هناك". هنا تتجلى تلك الحكمة القائلة " يموت البطل و تحيا القيمة".

العظماء يسعون خلف تحقيق أحلامهم و لا يهمهم تثبيط المحيط بقدر أهمية إيمانهم بأنفسهم، فهم يرون أحلامهم متحققة متى ما سلكوا الطريق الصحيح و اتجهوا الوجهة السليمة. حينها لا يفصلهم عن تحقيق الحلم سوى مسافة طريق تسمى "الزمن" ، بقي أن أشير إلى أن مدرس التعبير كان دوماً يعطيني العلامة الكاملة في هذه المادة يبدو أنه أعجب بخيال و خربشات ذلك الفتى الصغير المفعم بالأحلام و الأمل.



السبت، 2 يناير 2016

سأذهب إلى الأندلس




في مثل هذا اليوم الثاني من يناير لعام 1492 استسلمت مملكة غرناطة آخر امارة اسلامية في شبه الجزيرة الايبيرية(الاندلس) .. وبذلك يسقط آخر حكم للمسلمين في الأندلس . كان لدي صديق فريد من نوعه أيام المتوسطة و الثانوية اسمه علاء، في المرحلة المتوسطة كنت خارج المنزل لا أتحدث إلا بالعربية الفصحى. كنت وقتها أستمع للمحاضرات و الوعظ و كنت متأثراً بكتب التاريخ. صديقي علاء و هو من دومة الجندل شمال المملكة، كان أيضاً مهوساً بكتب التاريخ و تحديداً كل ما يخص أيام العرب القديمة من العرب العاربة و المستعربة و الكنعانين و الآراميين..إلخ. لكن كان عشقه الأزلي أرض الأندلس التي كان يحبها و يحدثنا عنها دائماً. 

كان هو الآخر يتحدث بالعربية الفصحى وقتها، أعتقد أنه قد تأثر بي و شجعته على الحديث بالفصحى. لكنه أخذ الأمر بجدية أكبر فقد كان يتحدث بالعربية الفصحى حتى مع أهله في المنزل كما سمعت. كان يعيش في عالمه الخاص و كنا صديقين مختلفيين عن بقية التلاميذ لكنني كنت أنسى العربية حينما أدخل للمنزل و أتحدث مع أهلي باللغة الصومالية بعكس علاء الذي يبدوا و كأنه قطع عهداً أن لا يتحدث إلا بالفصحى مهما كانت الظروف. 

في أوقات كثيرة كان الآخرون لا يفهمون سر تمسكه بالعربية الفصحى ، كان أمراً مستهجناً لديهم و مثيراً للسخرية. بالعكس من علاء فقد استسلمت للضغوط و لم أعد أتحدث بالفصحى في المدرسة مع دخولنا المرحلة الثانوية. و رغم ذلك بقيت صداقتنا كما هي، و كنا نقضى أوقات فترة الفسحة المدرسية في مكتبة المدرسة نقرأ الكتب ..تلك المكتبة التي كانت تبدو شبه مهجورة.

لا أعلم مالذي جعلني أتذكر علاء اليوم و لكن أذكره حينما كان يغضبه زملاء الدراسة بسخريتهم من لغته. كان يقول إنني ذاهب إلى الأندلس و يتجه باتجاه الصحراء التي كانت تحيط الحي السكني في محيط مطار الملك خالد الدولي بالرياض. و كلما رأيته هكذا عرضت عليه أن أرافقه و أقول له "سأذهب معك إلى الأندلس هيا بنا" و نبقى نتحدث في الطريق عن أمجاد الأندلس.. عن جمال غرناطة و بهاء قرطبة..عن المرابطين و الموحدين .. و عن الرشيد و المعتصم و المتنبي و محمد الفاتح. كان علاء يردد قصيدة أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس التي كان يحفظها عن ظهر قلب و كنت أردد معه: 

لكل شئ إذا ما تم نقصان ...فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأيام كما شاهدتها دول ....من سره زمن ساءته أزمان
و هذه الدار لا تبقى على أحد ...و لا يدوم على حال لها شان

إلى نهاية القصيدة:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد ...إن كان في القلب إسلام و إيمان

قبل عدة أشهر حضرت حفل زفاف لأحد أصدقاء الدراسة و سألت عن علاء ، قيل لي أنه ظل يتكلم العربية الفصحى حتى تخرج من الجامعة و بدأ رحلة التدريس كمعلم لكن يبدو أنه الآن تخلى عن العربية الفصحى بعد صمود سنين طويلة أمام مجتمع يسخر من لغته الأم. للأمانة سمعت مرة واحدة أنه تحدث كلمة بالعامية لأخي محمد الذي أزعجه و هو معه في سيارته حيث كان المكيف على ال (2) فطالب أخي بزيادة البرودة..فأجابه علاء: اثنين و تخب عليك !(تخب عليك معناته كثيرة عليك) وقتها أصيب أخي بصدمة و ضحكنا كثيراً لأنه كان نادراً أن يروى عن علاء بأنه تحدث باللهجة العامية.

تحية إلى صديقنا علاء و أحييه على شجاعته في التمسك باللغة العربية و تاريخ الأمة.