اليوم و بينما نحن في العمل تلقينا نبأ وفاة والدة أحد زملائنا (ابو رضا) و هو من مدينة القطيف، ذهب بعض الزملاء في الفترة الصباحية لتعزيته و لم يخبرونا و عاتبناهم فيما بعد. و بعد صلاة الظهر اتصلنا عليه للتعزية و المواساة في الفقيدة، لم ترتح نفسي لمجرد العزاء هاتفياً خاصة أن القطيف ليست بذلك البعد.
لذلك عزمت على مفاجأته و الذهاب شخصيا لتعزيته بعد العصر، أخذت اسم مكان العزاء من أحد الزملاء و كان في حسينية البيات في القطيف. الاحداثيات أخذتها من خرائط قوقل و استعنت بنظام الملاحة للوصول إلى المكان المنشود في الساعة الرابعة تقريباً.
دخلت إلى المسجد المجاور للحسينية لم يكن هناك أحد بالداخل ، سمعت صوت المكرفون و يبدوا أنه قادم من جوار المسجد. صليت العصر في المسجد و كان يحوى طاولة كبيرة عليها بعض الكتب المتناثرة و و لاحظت على الجدار صور لشيخ مسن مكتوب اسمه بأنه مؤسس المسجد الشيخ البيات. كما شد انتباهي كراسي المسنين التي كانت مزودة بالمسبحة و طاولة صغيرة فيها أحجار دائرية من سهل وصول الرأس إليها من وضعية الجلوس.
اتجهت إلى الديوان أو الحسينية بجوار المسجد و سألت أحدهم و كان خارجاً هل هذا مجلس عزاء والدة الاستاذ ابو رضا ؟ أومأ بالإيجاب فدخلت و كانت الحسينية مزودة بالكراسي و مكتضة بالحضور و المعزين. اتجهت إلى أهل الفقيدة و عزيتهم و لكنني لم أجد صديقي و زميلي ابو رضا، لاحظت شبه أحد الحضور بتفاصيل وجهه فسألته إن كان أخاه؟ أجاب بنعم وأشار أنه سيأتي بعد قليل.
أخذت بالسلام على الحضور ثم جلست على كرسي وثير بجانب شيخ كبير طاعن بالسن فقد كنت بحاجة لبعض الراحة بعد عناء الطريق الذي سلكته لأول مرة باتجاه هذه المدينة. مباشرة اتجه نحوي طفل صغير و معه كتاب مختصر يحوي جزء المجادلة و بعض الأدعية ، شاهدت الطبعة و كانت من الديار المقدسة في مشهد الايرانية. فكما يبدو أن كل منهم يقرأ جزء من القرآن على روح الفقيدة. و قرأت ما تيسر من سورة المجادلة و بينما نحن جلوس دخل علينا شيخ يلبس عمامة بيضاء يبدو أنه سيد من السادة.
دخل هذا السيد و جلس في صدر الحسينية و أخذ يعضنا بالموت و الحساب و يأمرنا بالوصية لكل من أحس باقتراب الأجل لسداد ديونه أو رد المظالم ، و مع الحديث عن المظالم انتقل لسرد أناشيد و أهازيج تحكي مقتل الحسين – عليه السلام- و سبي بناته. فأخذ الكثير من الحضور في البكاء فصرت أتأملهم بعضهم يأخذ المناديل ليمسح دموعه من التأثر و آخرون منصتون و كنت منهم.
أخذت أجول ببصري في الأرجاء و شدتني صورة معلقة لرجل بهيئة عراقية بالدشداشة الرمادية و الشماغ المكون من البقع البيضاء و السوداء، و كذلك صورة أخرى لشيخ يلبس عمامة بيضاء لم أتعرف عليه. في أثناء الوعظ دخل علينا زميلنا أبورضا و معه ابنه رضا الصغير و جلس مع إخوانه لما أشأ تأدية واجب العزاء قبل انتهاء الوعظ الذي كان الكل مستمعاً له، انتهى الوعظ بالدعاء للفقيدة و الترحم عليها و الصلاة و السلام على نبينا محمد و آل محمد بشكل جماعي و أنهى الشيخ السيد وعظه بهذه الجملة التي سمعتها تتكرر كثيرا "رحم الله من قرأ الفاتحة" فيرد عليه الحضور "أحسنت".
بعد الوعظ اتجهت لزميلي و عزيته في وفاة والدته التي سهر على مرضها فترة طويلة و كان نعم الابن البار بها حتى توفاها الله و أراحها من دار الابتلاء. أصر علي بالمكوث و شرب الشاي و القهوة ، فقبلت أن أبقى معهم لبعض الوقت و وقفت مع عائلة الفقيدة في صف واحد أستقبل العزاء معهم من المعزيين. كنت ألمح بعض من نظرات التعجب لدى المعزيين حينما يصل الدور إلى فيكملوا سلامهم و يقدمون لي تعازيهم كالمعتاد "أحسن الله عزائكم" فأقول لهم "جزاكم الله خيراً" "بارك الله فيكم و شكر سعيكم".
عرفني زميلي على أحد أصدقاء طفولته و اسمه محمد الجواد فجلست معه في طرف المجلس نشرب الشاي و القهوة و نتبادل أطراف الحديث، أخبرني أنه و أبورضا كانا أصدقاء منذ نعومة أظافرهما حتى درسا الجامعة في مدينة جدة و هما الآن جيران في الحي. كما أخبرني عن عاداتهم و تقالديهم في العزاء و عن مدى اختلافها عنها في مدينة صفوى المجاورة فالعزاء عندهم ثلاثة أيام للرجال و خمسة للنساء لشدة حزنهم.
كما أنهم في القطيف يعزون و يسلمون على جميع الحضور بعكس صفوى الذين يسلمون فقط على أهل الميت. سألني محمد الجواد على استحياء : هل أنت من أهل المدينة المنورة ؟ (حيث يوجد هناك شيعة سمر البشرة) قلت له: يا ليتني كنت من أهل مدينة رسول الله و لكنني صومالي و اسمي عواله و معناه صاحب الحظ السعيد و أنا سعيد بلقائكم. و أخبرني بحب أهل هذه الأرض لأرضهم و أنهم لا يرتاحون إلا بالسكن هنا مهما اغتربوا في المدن الأخرى للعمل.
و بعد مرور ساعة تقريبا من بقائي في الحسينية ، أستأذنت من الأخ محمد الجواد بالانصراف و ذهبت لأسلم و أعزي أهل الفقيدة مرة أخيرة قبل الخروج. ودعوني بحفاوة شديدة و تواضع حيث يقف لك الكبير قبل الصغير للتحية يرددون "شكر الله سعيكم". خرجت خارج الحسينية مع أبورضا و ولده و صديق عمره محمد الجواد و كان مصمما أن يأخذني معه لمنزله يبدو أنه كان سعيداً بزيارتي و عزائي و كان هذا كل ما أردته، لكنني اعتذرت و وعدته بأن أزوره مرة أخرى في الأفراح بإذن الله. و صديقه محمد الجواد لم يشأ أن يتركني للطريق رغم سهولته و أصر على أن يتقدمني بسيارته إلى بداية الطريق المؤدية للخروج من المدينة.
رحم الله الفقيدة و تغمدها الله بواسع فضله و عظيم منه و كرمه. و أعان الله زميلنا أبا رضا و أهله و ألهمهم الصبر و السلوان و إنا لله و إنا إليه راجعون.