الجمعة، 30 يناير 2015

بين التقليد و الإبداع



يولد الأطفال و هم يحملون خصائص كثيرة تؤهلهم لأن يصبحوا من العظماء و العباقرة إلى أن يتدخل المجتمع و يجعلهم مجرد نسخ مقلدة لمن سبقهم. الاطفال لديهم فضول كبير و يحبون الاستكشاف و المعرفة ، لكننا لا نصغى لاهتماماتهم و اشاراتهم التي إن أصغى لها الكبار و عملوا على اذكاءها لتطورت الانسانية بوتيرة لم يسبق لها مثيل و لرأينا الكثير من الناس السعداء بمنجزاتهم و إضافتهم للعالم. لعلنا نجد طفلاً ذكياً يملك طاقة عقلية هائلة و لكنه مصاب بالتوحد فلا نعرف كيفية التعامل معه و ربما نجده يسقط في النظام المدرسي فنظن أنه لن ينجح في حياته. قد يكون بحاجة لنظام تعليمي خاص مفصل على مقاسه بعيداً عن الحشو و الحفظ الأصم، فكثير من العلماء و العباقرة لم يكملوا التعليم النظامي الذي قد يكون في أحيان عائقاً أمام الابداع.  

سأشارككم اليوم بعضاً من مواقف الطفولة و الصبا حتى تعلموا أن بداخل كلٍ منا عبقرياَ يتشوق للنهوض، يحتاج فقط للعناية و الإصغاء حتى يخرج إلى الوجود. اطلب منكم و أنتم تقرأون الأسطر القادمة أن تعودوا إلى الوراء و تستحضروا ذلك العبقري الصغير بداخلكم:

هاجرت و أنا صغير هرباً من الحرب الأهلية الصومالية و أٌدخلت المدرسة الابتدائية و أنا لا أعرف حرفاً من العربية و لكن بعد شهرين كنت أتحدث العربية بطلاقة لا أعلم كيف تعلمتها بتلك السرعة، هذا ليس أمراَ خاصاً بي و لكنه هبة موجودة لدى الانسان خاصة الصغار لتعلم الجديد و التأقلم مع البيئة المحيطة. و هناك موقف لن أنساه و دائما ما يحدثني الوالد عنه حينما قدمت إلى الرياض و أنا صغير كنت في أحد الأيام راكباً الوانيت الأبيض مع أبي و أخي الأكبر.

 كان الوالد يقود السيارة بسرعة معتدلة و مرت بجوارنا على المسار الأيسر سيارة مسرعة فتعجب أخي الأكبر من سرعتها، بينما قلت للوالد و أخي " لا تتعجبوا من سرعة السيارة فلو كنا نحن من يقودها لما شعرنا بسرعتها و نحن في نفس الموقف بالنسبة لمن هم أقل منا سرعة". يذكرُ الوالد أنه تعجب من ردي ذلك و أنا الذي اتيت للتو من الصومال ووقتها لم أكد أبلغ السادسة من عمري.

كما أذكر أنني في المراحل الدراسية المتوسطة و الثانوية كنت أميل لبعض المواد أو بعض الجزئيات بشكل خاص من هذه المواد: التعبير و الأدب الجاهلي و الجغرافيا و التاريخ و الرياضيات خاصة المعادلات و اللوغاريتمات. كنت أستمتع كثيرا بالبحث عن المجهول "س أو ص" و كانت تمارين المعادلات و اللوغاريتمات هي الوحيدة التي أحلها كاملة بعد الدوام دون أن أتململ من المذاكرة التي لم أكن أجيدها.

 فاستراتيجتي الدراسية كانت تتمحور في الانتباه في الفصل و كتابة الملخصات مع المعلم و من ثم ارجاء المذاكرة حتى موعد الامتحان أو حل الواجب. فيما عدا المعادلات و اللوغاريتمات فكنت أحل التمرين تلو الآخر بشغف ، حتى أنني توصلت إلى طرق مختصرة لحل أنواع من المعادلات و اللوغاريتمات دون أية مساعدة من أحد و العجيب أنني كنت أتحصل على نفس الناتج دائماً و لكن بشكل أسرع و خطوات أقل بكثير مما علمنا إياه المعلم. مع تكرار التجارب تيقنت من صحة تلك الطرق المختصرة التي توصلت إليها.

ربما ليس سراً أن لدي نوعاً من الكسل و هؤلاء الكسالى هم من يخترعون عادة أقصر الطرق للوصول إلى الحل، لذلك قررت في أحد الامتحانات في صف الأول ثانوي أن أحل اللوغاريتم بطريقتي المختصرة. و كانت دهشتي عارمة حين صدور النتائج و حينما أعطاني المدرس المصري درجة صفر في سؤال اللوغاريتم  الذي كنت أعتبره من السهولة بمكان ، فذهبت أجادل المعلم و أحتج عليه فقال لي: نعم يا ابني الناتج صحيح و لكن ليست هذه الطريقة التي علمتكم إياها ربما تكون قد نقلت الجواب النهائي أو غشيت من أحدهم ! من المستحيل أن تحلها بهذه الخطوات القليلة.

حاولت أن أشرح له طريقتي المختصرة في الحل و لكنه رفض حتى أن يستمع إلى شرحي ، فالحق عنده فقط و الطريقة الوحيدة للحل هي الطريقة التي يعرفها و علمنا إياها. و في السنة التي قبلها كنت قد تعلمت بعض الطرق المستحدثة لحل المعادلات غير تلك الطرق التي درسها لنا معلم الرياضيات السوداني. فوضع المعلم سؤالا على السبورة و طلب أن يحلها أحدهم ، رفعت يدي و حينما توجهت للسبورة و كتبت أول سطر لحل المعادلة بالطريقة المستحدثة طلب مني الجلوس. طلبت منه أن يمهلني قليلاً حتى أكمل الحل و يرى الناتج الذي كنت متأكداً من صحته ، لكنه أصر على أن أجلس و لا أكمل رغم حماستي بأن أشارك الفصل و أعلمهم تلك الطريقة الجديدة و الميسرة لحل المعادلة.



انتهى الآمر ببعض الضحكات الساخرة من الطلاب و يقين المعلم بأنني لا أعرف الحل فقط لأنني لم أسلك طريقته في الحل. كل هذا جعلني أصاب بالإحباط و ما زاد الطين بلة هو محاولة أحد طلاب المشاغبين أن "يعركفني" و أنا في طريق العودة إلى طاولتي فرددت عليه بلمسة خفيفة في جبهته و جلست فما كان منه إلا أن قام و لكمني على رأسي. حينها شعرت و كأنني في حلم أو كأنني دخلت في بعد آخر كل شي حولي كان ضبابياً و الزمن يمشي ببطئ شديد ، قمت فكلت له اللكمات يمنة و يسرة حتى سقط على الأرض و تبعثرت الكراسي و الطاولات.

لم اكن أسمع صراخ المعلم أو شهقات الطلاب المندهشين مما يحدث أمامهم ، حاول مجموعة من الطلاب أن يثنوني عن ضرب ذلك المشاغب فأخرجوني خارج الفصل ثم عدت مسرعا و أنا أكيل له بعض الشتائم راغباً في إكمال اللكمات. انتهى بنا الأمر في مكتب المرشد الطلابي الذي لم يصدق ما سمعه عني و أطلق سراحي بناءً على حسن السيرة و السلوك بعدما اعتذرت للطالب المشاغب ، لاحقا سألني الطلاب ما هي الطلاسم التي كنت أتلفظ بها وقت المضاربة ؟ فعلمت أنني كنت أشتمه بالصومالية و أنا الذي كنت أعتقد أنني أشتمه بالعربية !

قصة أخيرة تجمع بين حبي للرياضيات و التاريخ، في أحد حصص التاريخ في الصف الثالث متوسط سألنا المعلم سؤالاً و قال من يحل هذا السؤال ليس بحاجة لدخول الامتحان الشهري و سيحصل على العلامة الكاملة  8\8. كان السؤال: في أي عام بعث الرسول صلى الله عليه و سلم بالتاريخ الميلادي ؟ مباشرة أجريت عملية حسابية سريعة في ذهني ، أولاً ما هي الحقائق التي أعرفها لحل السؤال ؟ لدي معطيان، الأول:  الرسول صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل الموافق 571 م ، الثاني: أنه بعث و عمره أربعون سنة. إذا سنة البعثة = عام الفيل + 40 سنة = 571 + 40 = 611 م. هذه العملية الحسابية لم تستغرق سوى ثانيتن أو ثلاثة مباشرة رفعت يدي و كنت الوحيد الذي رفع يده في الفصل فجاوبت على السؤال و شرحت كيف تحصلت على الجواب من المعطيات التي أمتلكها.

أعجب المعلم بجوابي فوعدني بالدرجة الكاملة في امتحان التاريخ ، و باعتباري كسولاً لم أتعب نفسي في مذاكرة الامتحان فلا حاجة لبذل جهد غير ضروري. لكن الصاعقة كانت حين وضع المعلم ورقة الامتحان أمامي كبقية الطلاب ! وقتها لم أعرف ماذا أفعل ؟ هل أذكره بوعده ؟ لكن نفسي أبت السؤال و قلت دعني أحاول أن أحل الامتحان و ليكن ما يكن. أنهيت الامتحان و لم أراجع بعد ذلك حتى وقت صدور النتائج ، أخذ المعلم بتوزيع الدرجات و وزع للجميع و كانت ورقتي هي الآخيرة. ثم رفع الورقة و قال: أتعلمون ورقة من هذه ؟ إنها ورقة عواله .. أنا تصلبت في مكاني خشية أن ينالني نوع من الهزوء و السخرية إن لم تكن أجوبتي كما يجب. فكانت المفاجأة أنه قال: لو طلب مني حل الإمتحان لما حللته مثل حل عواله ، و لو كانت هناك درجة أعلى من الدرجة الكاملة لأعطيته إياها. وقتها اسقط في يدي و انتهت روعتي فقد كنت الوحيد الذي أخذ الدرجة كاملة في مادة التاريخ تلك السنة.

كان لتشجيع معلم التاريخ دوراً في استمراري على اطلاع الكتب التاريخية ليس فقط للدراسة و لكن للإطلاع و كسب المعلومات و البحث في التاريخ خارج المنهج الدراسي حتى بعد أن توقفت عن دراسة مادة التاريخ بعد انضمامي للثانوية العلمية. أما معلموا الرياضيات للأسف لم يشجعوني على التطور و الاستمرار بل كانوا يحاولون خنق أي بذرة للإبداع و الاكتفاء بالتقليد و التلقين لأجل كسب الدرجات فقط. في الدول الغربية يهتمون لمن يظهر تميزاً في بعض المواد و يدعمونه للتطور السريع فلا يربطونه بمقررات دراسية مملة، بل ربما تجد أحدهم يدخل الجامعة و هو في الثانية عشرة من عمره فربما يكون مستواه العقلي يؤهله للتقدم سريعاً في سلم التعليم. فكم من عبقري خٌنقت عبقريته لأجل أن يصبح إنساناً عادياً كالآخرين ، نحن لا نشجع على التمايز و لا نعترف بالقدرات الفردية و نكره النشاز بين طابور المقلدين.

نصيحة آخيرة أكررها دائما: لقد ولدت إنساناً فريداً من نوعه ، أنت وحدك تستطيع وضعك بصمتك الخاصة في هذه الحياة. القبور هي أغني مكان في الأرض فهي تحوي الأفكار و الاختراعات و الاكتشافات التي ماتت مع أصحابها و لم تخرج إلى الوجود. لقد ولدت أصلاً فلا تمت مجرد تقليد .. حذار أن تصبح مجرد رقم آخر يضاف إلى الوجود لا يحمل للعالم سوى قيمة صفرية جديدة على يسار الأرقام الشامخة للعظماء و المبدعين و المستكشفين الذين تركوا ورائهم قيماً و انجازات ثابتة وعالماً مختلفاً من ورائهم.